مجلد 2 عدد 2 (2022)

المعهد العالمي للتجديد العربي: المشروع الواعد

كلمة الدكتور خضير المرشدي - رئيس المعهد العالمي للتجديد العربي.

إبتداءً يسرني أن أهنيء الاخوات والاخوة اعضاء المعهد من المفكرين والمثقفين والعلماء بمناسبة الاحتفالية في الذكرى الثالثة لتأسيسه، متمنياً للجميع دوام الصحة والموفقية واستمرار العطاء الفكري والثقافي.

جاءت انطلاقة المعهد استجابة لتحديات عدة، منها تحديات تاريخية متعددة تمت الإشارة إليها في مناسبات سابقة - ومنها ما يرتبط بالحاضر، في مقدمتها بروز الحركات السياسية المغطاة بغطاء الدين، والأصوليات المتطرفة القومية والدينية والمذهبية والطائفية، والفجوة العلمية الهائلة التي تفصلنا عن العالم المتقدم. ومنها تحديات مستقبلية متمثلة في عدم قدرة العرب على مواكبة التطورات العالمية في مجالات الحياة المختلفة، ومنها ذات صلة باستشراف مستقبل الوطن العربي ليأخذ مكانه الذي يستحقه في عالم متغيّر بسرعة هائلة.

لقد حقق المعهد خلال السنوات الثلاث الماضية جملة من الإنجازات المهمّة، فكرية وثقافية وعلمية وتنظيمية، وساهم إلى حد ما في تفعيل الحركة الثقافية في الوطن العربي، وعمل بجدية وإصرار باتجاه تحقيق رؤيته الاستراتيجية وفكرته الملهمة، معتمداً على جهد المئات من المفكرين والعلماء والمثقفين والباحثين العرب الأفذاذ الذين انضووا تحت خيمة المعهد، للعمل متطوعين في إعداد البحوث والحلقات النقاشية، وإقامة الندوات، وإلقاء المحاضرات، وتنظيم ورشات العمل، وانتظام عقد المؤتمرات السنوية.

وبصفته منظمة فكرية وعلمية وثقافية غير حكوميّة، غير حزبية، غير سياسية، وغير ربحية؛ فإن المعهد يعتمد في تمويل نشاطاته على مبادرات أعضائه وتبرعاتهم، والعمل التطوعي، في الوقت الذي يسعى فيه إلى إيجاد منافذ استثمارية استراتيجية للتمويل في مقدمتها السعي إلى تأسيس جامعة التجديد العربي للابتكار، وأكاديمية التدريب المهني.

يسعى المعهد إلى أن يكون مدرسة فكرية عربية حديثة تُعنى بتجديد منظومات الفكر والثقافة والعلوم في الوطن العربي، وتنشر النور في أرجائه، ويهتم بقضية بناء الإنسان، والشباب العربي تحديداً، القادر على قيادة مشروع التجديد العربيّ وفق معايير المدنيّة الإنسانية المعاصرة.

ومن ضمن اهتمامات المعهد دراسة التيارات الفكرية العربيّة والتجارب العالمية في مجال التجديد، دراسة نقدية علميّة ومنهجيّة، بغية تشخيص حالات العطب والتراجع في منظوماتها وأساليب عملها والاستفادة منها في مشروع التجديد العربي.

وبذلك فإن المعهد لم يطرح نفسه بديلاً أو منافساً أو ممثلاً لحزب أو حركة أو جهة أو تيار سياسي، إنه مركز تفكير يسعى إلى تحقيق وحدة الفكر والثقافة العربيين، بإقامة علاقات التعاون والعمل المشترك مع المنتديات والملتقيات والجمعيات والمراكز الفكرية المرموقة في الوطن العربي والعالم، وإقامة العلاقات مع الجامعات والمعاهد العربية الرسمية والخاصة. وعلى طريق تحقيق هذا الهدف الحيوي والمهم، عقد المعهد مذكرات تفاهم وتعاون مع عدد من الجامعات والمنتديات والملتقيات والجمعيات العربية ومنها:

  • جامعة القدس العربية المفتوحة.
  • منتدى الفكر العربي في الاردن.
  • ملتقى المؤرخين ألعرب في المملكة العربية السعودية.
  • الجمعية الاردنية للعلوم التربوية.
  • جامعة ابن طفيل المغربية.
  • المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية.
  • كلية الاداب والفنون والانسانيات / جامعة منوبة – تونس.

وإن الاتصالات مستمرة لعقد المزيد من الاتفاقيات مع كافة الجهات الفكرية والثقافية والجامعات في الوطن العربي.

تنبع رؤية المعهد البعيدة الأمد من حاجة الدول العربية لتجديد منظوماتها الفكرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والعلمية والتربوية والتعليمية والدينية واللغوية والأدبية والنفسية والأنثروبولوجية والفلسفية والتكنولوجية والقانونية، وتفعيل الترجمة وتحويلها إلى مؤسسة تطبيقية ضمن مشاريع المعهد المستقبلية.

هذه المنظومات شكّلت عبر عقود من الزمن وخلال المئة سنة الأخيرة (المحتوى الوظيفي للقومية العربية) التي حققت بها نجاحات كثيرة، مثلما تعرضت لإخفاقات خطيرة دفعت بالأمة العربية ودولها إلى حالٍ من التراجع والتردّي والتخلف والانهيار والإفقار والتجهيل والاستلاب؛ ما يستوجب على المفكر والمثقف العربي التفكير في تجديد المحتوى الوظيفي للقومية العربية، وبناء فكر عربي حديث يستلهم القيم الحضاريّة العربية والإنسانية، ويستوعب متطلبات الحاضر، ويواكب التطور والتقدم العالمي في المجالات العلمية والتكنولوجية والتحول الرقمي واقتصاد المعرفة ونظرية المعرفة وسلطة العقل وإحكام المنطق.

ويرفد الثقافة العربيّة بمصادر التجدّد الدائم وأدواته، وتستمدّ منه الأمة عوامل نهضتها وتقدّمها في الحاضر والمستقبل.

اعتمد المعهد لتحقيق رؤيته على فكرة ملهمة ارتكزت على ركنين اساسيين هما بناء مجتمع المعرفة الحديث والتنمية الإنسانية ودراسة أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية، وما يتعلق بالتكنولوجية الرقمية المتعددة الاختصاصات، ومبدأ المواطنة العربية القائم على ضمان الحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية للإنسان العربي، وفي أن يختار حق الإقامة والعمل والعيش في أي جزء من الوطن العربي، مثلما تترتب عليه واجبات والتزامات تجاه البلد الذي يختاره.

هذه الفكرة استُمدت من مبدأ مفاده أهمية بناء دولة المواطنة العربية المستندة إلى احترام الإرادات المشتركة لفئات المجتمع وأفراده في أي من الدول العربية وفي عموم الوطن العربي الكبير، والتي سيتم تناولها في مؤتمر المعهد الثالث للعام ٢٠٢٣م.

وتمثل فكرته الملهمة حلقة الوصل بين ما هو مادي وما هو فكري ومعنوي، وتهيئ المجال الحيوي لإظهار قدرات الإنسان في استثمار مكونات البيئة لبناء قاعدة مجتمع المعرفة، بما يجعل من الوطن العربي شريكاً للعالم في بناء المدنية المعاصرة وجزءًا فاعلًا فيها، وهذا لا يلغي مبدأ التمسك والاعتزاز بقيم التراث العربي الإسلامي ومنجزات الأمة الحضارية وخصوصياتها الوطنية والقومية، كما هو حال الأمم والدول والشعوب المتقدمة في الغرب والشرق التي اعتنقت مبدأ الشراكة في صنع المدنية وأصبحت جزءًا منها وتمسكت في ذات الوقت بتاريخها وتراثها وخصوصياتها القومية.

من المبادئ المهمّة لمشروع التجديد العربي، اعتماد ساحة عمله الوطن العربي الكبير، بحدوده التاريخية المعروفة، وهدفه الرئيسي هو الحفاظ على مصالح الأمة العربية العليا وأهدافها في تحقيق النهضة والوحدة بإطار من التنوع والتعددية واحترام الخصوصية الوطنية للدول العربية، وحرية الاختيار والانتماء، وتنوع مصادر المعرفة، وتوطين العلم والتكنولوجيا الرقمية، وتوسيع نطاق الترجمة لمختلف اللغات لما لها من دور في خلق عملية التفاعل مع الثقافات، وتحقيق العدالة الاجتماعية التي تسهم في تحفيز الإنسان العربي على الابتكار والإبداع.

من مبادئ المعهد الثابتة، إنه لا يتعاطى  العمل الحزبي بأي شكل من أشكاله، ولن يتبنى إتجاهًا أو موقفًا سياسيًا أو انتماء دينيًّا أو طائفيًّا أو مذهبيّا معيّنًا، ولا يعنى بممارسة سياسية يوميّة للأنظمة العربية، ولن ينحاز لدولة أو جهة أو حزب أو فرد، ولن ينخرط في محور من محاور الصراع  العربية والدولية الجارية الآن أو التي ستحدث في المستقبل.

إنه مشروع لفكر عربي حديث يعتمد في مشروعه على تحفيز التفكير خارج الأطر المألوفة، وعلى حرية الفكر واحترام الرأي والرأي الآخر، والدقة والعلمية والواقعية والنقد المعمّق والعصف الذهنيّ والابتكار الحرّ في مختلف فروع المعرفة.

ومن ميزات المعهد الهامة، إعداد خطط واستراتيجيات عمل (خمسيّة) بما تعنيه من تخطيط علمي، وتنفيذ مرن، وتقييم نقدي للأداء والإنجاز، مؤكداً أنّ رؤيته وفكرته الملهمة عموديّةٌ عميقة ثابتة غير قابلة للتغيير، أما غاياته وأهدافه ومشاريعه المعبرة عن رؤيته وفكرته فهي أفقية خاضعة للمراجعة والتغيير في الزمان والمكان وحسب الظروف.

يلتزم المعهد بقيم أخلاقية رفيعة تأتي في مقدمتها قيمة الحرية والصدق والاستقلالية والنزاهة والإصرار على النجاح مهما كانت التحديات ومهما طال الزمن، يضمن حرية النشر والتفكير، حرية الضمير والاجتهاد، عدم المساس بحريات الآخرين أو قمعها، وحرية الرأي والانتماء واختيار المعتقدات بما لا يتقاطع مع حرية الاختيار للآخر وانتماءاته، (لايجوز أن تجيز لنفسك ما لا تجيزه للآخرين أو أن تقوم  بعمل وتُعيب على الآخرين أن يأتوا بمثله، وأن تصدر أحكاماً وتحرم الآخر من نقدها أو الإتيان بمثلها أو أحسن منها).

ويؤمن المعهد بأن الفكر الإنساني متفاعل ومتواصل، وهو عبارة عن حلقات متصلة ببعضها في عصر يتميز بتقدم رهيب في علم  الاتصالات ونقل المعلومات والتحول الرقمي؛ لذلك، فإن الفكر الذي يسعى المعهد لبنائه، لا ينفصل عن تراث الأمة الفكري، ففي الوقت نفسه يُعدُّ امتدادًا للفكر الإنساني الحديث متفاعلًا معه متأثرًا به، ومؤثرًا فيه.

كما وإن من أهم مبادىء المعهد اعتماده النقد العلمي الموضوعي الجريء والشجاع لكل الأفكار والنظريات والتيارات ومنظومات الفكر والخطابات بمختلف أنواعها، والدراسةَ والنقدَ لكل ما أنتجه البشر من معارف وعلوم وأفكار وثقافات عبر التاريخ.

ويؤمن المعهد بأن الباحث العلمي الرصين ينبغي أن يكون محصناً من تأثير التزاماته وانتماءاته الأيديولوجية والدينية  والعرقية والقومية والسياسية والحزبية وغيرها - بما يتيح له أن يجيب بحرية تامة عن أسئلة جوهرية تتعلق بيقينيّات تاريخية جامدة، وخطابات حاضرة متخلفة، وأطر حديدية مقفلة، كانت وما زالت تشكل أهم  معوقات تطور الفكر العربي، وتمثل تحديات لإيقاف تجدده، وعوامل معطلة للعقل ومجافية للمنطق.

وانطلاقاً من أن التجديد يمثل رسالة حياة وضرورة إنسانية دائمة، فإن مبررات السير في طريق التجديد كي تتجاوز الأمة حالَ التراجع والتردي والتخلف، تُعد مبررات ملحّة وملزمة لكل مفكر ومثقف وعالم في الوطن العربي، ولكل مواطن عربي حصيف، رغم ما يعترض هذا الطريق الوعر من عقبات وعراقيل ومحاولات إحباط وتيئيس وتشويه لمنطلقات هذا المشروع ومقاصده وأهدافه النبيلة الوطنية والعربية والإنسانية من قبل جهات معادية للنهضة، ولكل فكرة ناجحة، ومشروعٍ يسعى إلى زرع الأمل في نفوس أضاعها اليأس في دهاليز السياسة الفاشلة، وكواليس التديّن المزيّف، والتشبث الكاذب بإيديولوجيات مقفلة - كل ذلك لكونه مشروعًا عربيًّا أصيلًا متمسكًا بمصالح الأمة العربية، وباستقلاليةٍ في زمن فقدت فيه هذه المقاييس معانيها واعتبارها، وهذا هو شأن المشاريع العظيمة والرائدة عبر التاريخ.

يؤمن المعهد أن لايجب إخضاع القومية العربية للتجاذب بين الدين والسياسة والأيديولوجيا لان مثل هذا الفعل سوف يبقيها أسيرة سجن العزلة، ويفقدها القدرة على تكوين محتوى جديد متطور منسجم مع ذاته ومع نتاجات العصر.

لم تكن العروبة يوماً ما دينية، بل هي مدنية علمانية مؤمنة، واذا تبصرنا في أركان الإيمان التي أنزلها الله على البشر، ويخاطَب بها المسلمون خاصة ليكتمل إيمانهم، سنجد هذه الحقيقة جلية واضحة دون لبس أو تأويل. كما وأن العروبة لم تتعصب لتاريخ العرب دون غيرهم، لأنها أثّرت وتأثّرت وتفاعلت عبر الزمن مع تاريخ أمم وشعوب أخرى وثقافاتهم ، واشتركت معها في بناء الحضارة العربية والإسلامية والإنسانية، وكوّنت معهم  محتواها الفكري في الزمان والمكان نتيجة هذا التأثير والتأثر والتفاعل.

ولم تكن العروبة بطبيعتها متعصبة أو عدائية، بل ان الحق والعدل والتسامح من ميزاتها الاساسية، وإنها لن تنتقل إلى فضاء الإنسانية دون (ديمقراطية) تراعي الخصوصية الوطنية والقومية وتعبر عن حاجة المجتمع العربي في توفير مستلزمات تقدمه.

إن العروبة الضامنة لوحدة الفكر والثقافة والاقتصاد، المستلهمة لقيم التراث، المُحترِمة لعقل الإنسان والمستثمرة فيه، المؤمنة بالتنوع والتعددية ،وبخصوصيات الدول العربية وعاداتها وتطلعاتها، والملتزمة بالعدالة الاجتماعية نظاماً لتفجير طاقات الإنسان، وبالتنمية البشرية المستدامة وسيلةً، ومؤمنة بأهمية العلم والتكنولوجيا الرقمية والابتكار والتفكير الحر والمواطنة الرقمية، ونظرية المعرفة الحديثة، وسلطة العقل وإحكام المنطق، سبيلًا لبناء المجتمع العربي وإدارته. وهو المحتوى ذاته الذي يعمل مشروع المعهد في التجديد العربي على صناعته كي يكون مرتكزاً لبناء فكر عربي حديث.

 

إفتتاحية العدد الرابع

الأستاذ الدكتور محمد نجيب بوطالب

رئيس هيئة التحرير

يأتي إصدار العدد الرابع من مجلة "التجديد العربي" متزامنا مع احتفالية المعهد العالمي للتجديد العربي بذكرى تأسيسه الثالثة. وهي احتفالية تتميز بعدة ميزات أهمها أن معهدنا يشق طريقه بثبات وما يفتأ يحقق أهدافه التي رسمتها هيئته التأسيسية منذ عام  2019إلى اليوم بتؤدة وثبات. كما تتميز بالتقدم في تنفيذ توجهات وبرامج هيئة التحرير باتجاه العمل على التنويع في المحاور والانفتاح على الباحثين الشبان وتغطية القضايا الملحة في المجالات المتناولة بحثا وتدقيقاً وبإصدار الأعداد في آجالها دون تأخير. وتعتبر "مجلة التجديد" إحدى أهم مؤسسات معهدنا الواعدة بما تحمله من آمال لدعم المسيرة  الفكرية والعلمية والثقافية التجديدية في الوطن العربي، فقد أصبحت مجلتنا المحكمة تشد اهتمام الباحثين والمفكرين في المنطقة العربية بمختلف مشاربهم وتخصصاتهم وفي سياق توجهات المعهد ومجلته ضمن  مسار التجديد العربي.

وإذ تشكر هيئة التحرير كل المتدخلين والمشرفين من داخل المعهد على دعمهم وتشجيعهم الهيئة المديرة للمجلة على عملها التطوعي الدائم و على حرصها على جعل المجلة في المستوى المأمول فهي تشكر كل من وضعوا فيها الثقة والأمل لتحقيق نشر ذي مستوى مرموق ومكانة محترمة علمياً. مع اعتذارنا عن أي تقصير قد يحصل خارج نطاق الإرادة والقصد.

 و في خاتمة هذه الكلمة الموجزة يسعدنا أن نتوجه بجزيل عبارات التقدير إلى رئيس معهدنا الدكتور خضير المرشدي على تشجيعه الدائم وحرصه المستمر على استقلالية عمل مجلة التجديد، كما نتوجه إلي سعادته و كل نوابه ومساعديه بأسمى عبارات التهنئة بالذكرى الثالثة لانطلاقة معهدنا المباركة، و كل عام و أنتم بخير.

منشور: 2022-07-07

المقالات