Vol. 1 No. 1 (2021)

					View Vol. 1 No. 1 (2021)

التجديد ضرورة الحاضر ورسالة المستقبل

 

لازمت فكرة التجديد الحياة الإنسانية منذ نشأتها الأولى وفى مراحل التاريخ كافة ، حيث  لا تكاد مرحلة تخلو من محاولة للتجديد والتتنوير والتغيير، فكانت هدفا لجميع الأديان والرسالات ولعدد من الحركات والأحزاب والمدارس والشخصيات.

قد لا يتسع المجال فى هذه الكلمة للحديث عن محاولات التجديد والتغيير التي قام بها عدد من المفكرين والثقفين عبر التاريخ العربي وتحديداً خلال المرحلة التي تلت سقوط بغداد على يد المغول عام 1258م – 656 هـ... والتي ما يزال صدى تلك المحاولات وتأثيرها الفكري حاضراً فى كتب المؤلفين وفى إصدارات الباحثين ، وغالبً ما يتم الإسترشاد بما أنتجته من أفكار وثقافات فى أي مشروع للإصلاح والتجديد والنهضة.  كما أجد أنه من غير المناسب هنا أن نتناول تاريخ الثورات وأنظمة  الحكم العربية التي قادتها شخصيات أو حركات وأحزاب وطنية وقومية منذ منتصف القرن العشرين ، والتي عشنا جزءا من مراحل نشأتها ورفعنا بعضنا من شعاراتها الداعية لرفض الهيمنة والتبعية والتجزئة والاستعمار الخارجي من جهة ، وتحرير فلسطين و الأحواز والأراضي العربية المحتلة والقضاء على الظلم والفقر والجوع والجهل والأمية والمرض والتخلف والطغيان والاستبداد الداخلي من جهة ثانية. وناضلنا مستبشرين بتحقيق الحلم الكبير فى تغيير حضاري شامل فى حياة الفرد والمجتمع وصولاً إلى قيام الدولة العربية الحرة الموحدة ، دولة الحق والعدل والقانون والمساواة والمواطنة الحقة.  

إن تلك المحاولات رغم ما أفرزته من نتايج فكرية وثقافية فى زمانها ومكانها وظروفها ، وأخذت مداها فى التأثير الفكري بين فئات واسعة من الشباب والباحثين لحقبات زمنية لاحقة، إلاّ أنها بقيت أفكاراً حبيسة فى بطون الكتب بوصفها جزءا من التراث، وفى حدود البحث وإعداد الدراسات، فيما عدا قلة منها أخذت حيّزاً من الانتشار والتأثير اللذين كان لهما الأثر فى تحفيز العقل العربي فى مراحل متعددة من القرن العشرين والتي كانت سبباً فى نشر الشعور القومي لدي الشباب العربي ومهَّدت الطريق لإقامة ثورات وطنية تحررية.  إن هذه الثورات وتجارب الحكم فى البلدان العربية على الرغم مما حققته من إنجازات سياسية واقتصادية واجتماعية مهمة، إلا إنها اخفقت فى تحقيق النهضة الحضارية العربية الشاملة، لأسباب وأزمات داخلية معروفة، وتحديات خارجية معلومة لم يكن أولها احتلال الأحواز العربية وفلسطين وأراضِ عربية أخرى، ولن تنتهي  باحتلال العراق وتدمير دولته الوطنية ومؤسساته المجتمعية أو بتدمير سوريا وتفتيتها وتهجير شعبها وإقصاء قواها الوطنية وتهميشها، أو بتجزئة اليمن وليبيا وإنهاك شعبيهما بتدخلات خارجية وحروب داخلية عبثية أو ما يجري من صراعات سياسية وفئوية بأقطار عربية فى مشرق الوطن العربي ومغربه.

إنها أزمات داخلية مركبة وتحديات خارجية خطيرة ومستمرة، حوّلت الحلم الكبير، حلم الدولة العربية الديمقراطية الموحدة إلى حالة خوف دائم من انهيار الدولة القطرية ذاتها وتجزئتها وشرذمتها إلي كيانات هزيلة نتيجة هيمنة تيارات وتكتلات وأحزاب ذات أفكار وسياسات طائفية وعنصرية متطرفة متخلّفة وشاذة، شكّلتْ وتشكّل خطرا حقيقياً على وحدة المجتمعات العربية وأمنها واستقرارها وتقدمها، وكان من أهم مخرجاتها تنفيذ مخطط خطير من التجهيل والإفقار والفساد والإفساد والتجويع المادي والمعنوي والفكري والثقافى والأخلاقي والتربوي التعليمي والعلمي والمعرفى...

وأصبح التحدي الأكبر الذي تواجهه الدول العربية هو كيفية المحافظة على الوحدة الوطنية وتماسك المجتمعات العربية، وكيفية القدرة على سد الفجوة الهائلة والمتعاظمة من التراجع والتخلف بينها وبين دول العالم المتقدم. ولن تستطيع الأمة تجاوز هذه الفجوة الخطيرة إلا بمشروع لتجديد شامل وفق رؤية بعيدة الأمد تهدف إلى بناء فكر عربي حديث يستلهم القيم الحضارية العربية والإنسانية، يستوعب متطلبات الحاضر ويواكب التطور العالمي فى مختلف المجالات العلمية والتكنولوجية والتحول الرقمي ونظام المعرفة الحديث وسلطة العقل وإحكام المنطق... وينطلق من فكرة ملهمة لبناء مجتمع المعرفة وتحقيق مفهوم المواطنة العربية، معتمداً فى ذلك على دور التربية والتعليم فى تطوير قدرات الشباب وعلى تطبيقات التكنولوجية الرقمية فى تكوين المعرفة، ويسعى لبناء استراتيجية فكرية وعلمية وثقافية شاملة للتجديد، تتضافر فى بنائها جهود المفكرين والعلماء والمثقفين والمبدعين والخبراء فى الدول العربية، وتتداخل فيها طاقات الشباب، وإمكانات ساندة من منظمات عربية ودولية خاصة تلك المهتمة بتنمية المجتمع وتطويره ...

فمن بين القضايا الأساسية والمصيرية التي يجب أن يتصدى لها (مشروع التجديد) فكرياً وعلمياً وثقافياً هي تلك التي تتعلق بحياة الأمة وهويتها وتراثها وحاضرها ومستقبلها ومنظومة قيمها ورسالتها ووحدة اقطارها ومصالح وإرادات مجتمعاتها وتماسكها ومنها:

  • إبراز الأبعاد الروحية والحضارية والإنسانية للعروبة من حيث إنها عاشت دوما فى صيغة موحدة مع الإسلام الذي غذاها بقيم مادية وروحية وأخلاقية جديدة فى حينها، وأعطاها شموليتها وأنسانيتها، والتركيز على إبراز هذه الحقيقة التي شكّلت الأساس المتين لنشوء الحضارة العربية ـ الإسلامية وازدهارها، وتأكيد أهميتها فى العصر الراهن مدخلا للحوار بين التيارات الفكرية والسياسية فى الوطن العربي لبلوغ مستوى جديد من وحدة النضال فى مواجهة الأخطار التي تهدد الدول العربية من جهة ، وفى تحقيق الإرادات والمصالح المشتركة لهذه التيارات من جهة أخرى.
  • تناول التحديات الرئيسية التي تواجه العروبة بوصفها هوية وانتماءً ورسالة إنسانية بمزيد من البحث والتحليل والدراسة وهي التحديات المتعلقة بالتجزئة والتفتيت والإفقار والتخلف، وفقدان الاتجاه الحضاري...فعندما يتم حسم إشكالية التجزئة والتفتيت بإطار يحقق الوحدة الوطنية، وعندما يتم التغلب على حالة التخلف بالانفتاح على العالم ومواكبة طريق التقدم الحديث... فإن إشكالية تحقيق التقدم الحضاري المساهمة فى بناء المدنية المعاصرة يتقرر مصيره من الحقيقة التي يعيشها العالم اليوم ؛ تلك هي أن العقيدة مهما كان نوعها تمثل خيارا حرا ورأيا شخصيا ، للفرد كامل الحرية فى اختياره والانتماء إليه . ولاشك أن من أهم الأسباب التي تعيق السير على طريق تحقيق الوحدة العربية هو أن هذا الموضوع لم يطرح بمضمونه العميق والواضح على عامة الناس لاستيعابه واعتماده مبداً لحوار بين تيارات الأمة لتحديد خياراتها فى أسلوب تحقيق الوحدة بعيداً عن تأثيرات الدين واستخداماته الإديولوجية وتوظيفه السياسي.
  • البحث فى قضايا جوهرية وعناوين مصيرية كمفهوم الوطنية الصحيحة، الدولة والسلطة، مرجعية الدولة العليا، مفهوم العقيدة، الظاهرة الدينية الساسية، النزعة الطائفية والعنصرية، القبلية والعشائرية والمناطقية، الهوية والتنوع، الأقليات، التراث، العدالة الاجتماعية، الوحدة فى ظل الواقع الحالي، قضية الحريات والديمقراطية وغيرها.
  • تجديد الوسائل والبنى التحتية لمشروع المستقبل العربي، وأهمية وضع مقاربات فكرية وثقافية وسياسية تستوعب المتغيرات الإقليمية والدولية بما يسهم فى بناء هذا المشروع على أسس حديثة.
  • مشكلة البناء الحضاري للأمة والقدرة على إعداد عناصره الرئيسية التي يمثل كل منها إشكالية كبيرة أمام أي مشروع للتجديد، وتحتاج إلي جهد كبير من البحث والتحليل وابتكار الأفكار والبرامج العملية لمعالجتها، وهي:
  • إشكالية بناء الإنسان العربي.
  • إشكالية استغلال الطبيعة والأرض العربية، واستغلال الموارد فى عملية التجديد والبناء والتقدم، واستثمار الوقت وحسابات الزمن. هذه الإشكاليات لكي تتفاعل مع بعضها وتنتج (حضارة) لابد لها من (قيمة مُلهِمة) تحقق لها هذا التفاعل والانسجام، تمثل ذلك على مر التاريخ بوجود فكرة دينية أو رسالة سماوية أو دافع أخلاقي، وهو الأمر الذي يمثل الآن ((مشكلة كبرى)) في حياة الأمة، من حيث إن الفكرة الدينية المُلهِمة قد تراجعت بل واختفت تماماً أمام انتشار حزمة من الأفكار الفاسدة والمتخلفة والمخرّبة والمفرّقة التي تعمل باسم الدين، وظهور سيل من الحركات والأحزاب والتيارات السياسية المغطاة بغطاء الدين ذات النزاعات الباطنية الهدّامة التي تُجهض أية فكرة مُلهِمة لنشوء الحضارة وتعيق أي مشروع للنهضة والتجديد والتقدم.

إن هذه المشكلة تعد من التحديات الرئيسية الكبرى التي تواجه الأمة فى جميع أقطارها، وتحتاج الي معالجات فكرية وثقافية وقانونية وميدانية شاملة وابتكار الفكرة المُلهِمة المتمثلة فى بناء مجتمع المعرفة وتحقيق المواطنة العربية.

  • مشكلة تحقيق التواصل الفكري والعلمي والثقافى الدائم مع الأمم والشعوب بهدف التفاعل مع حضاراتها واستيعاب ثقافاتها، تشكل الآن معضلة مهمة يتوجب على أي مشروع للتجديد العربي أن يلتفت إليها وفق برنامج دائم ومستمر، حيث إن الثقافات تتكامل مع بعضها، ثم إن القارىء الجيد للتاريخ يعلم أن الحضارات تمثل حلقات متصلة فى سلسلة واحدة، عندما تدق الساعة بأفول واحدة منها، فإن حضارة أخرى فى مكان ما من العالم تتهيأ للنشوء والازدهار والتطور.
  • ومن القضايا المهمة التي يجب أن يتصدى لها مشروع التجديد القضية المتعلقة بمشكلة الثقافة بوصفها أسلوب حياة وسلوكا اجتماعيا وشبكة علاقات إنسانية ومنظومة قيم وأخلاق وحالة وعي وفهم واستيعاب وجمال وذوق، وعمل وزراعة وصناعة وخدمات وإنتاج. والتعامل معها ليس على أساس أنها مصدر للمعرفة والعلم والتعلم والكتابة والخطابة فحسب، بل إنها الفضاء الواسع التي تنشأ فى رحابه الحضارة وتزدهر فى أجوائه الحياة.  وإذا ما تراجعت الثقافة لأي سبب من الأسباب، فإن ذلك مدعاة لظهور بدائل ميّتة وأصنام عديمة الحياة، وستبرز تيارات تقتل أي فكرة للبناء وأي دعوة للتجديد والتقدم، ولا شك أن هذا هو حال أمتنا الآن فى معظم أقطارها.
  • معالجة مشكلة الوعي التي تتأتى من كونه نتاج عمليات ذهنية وشعورية معقدة تتفاعل فيما بينها. فالتربية والتعليم والتعلّم لاتنفرد بتشكل الوعي لدى الإنسان وليس هي العامل الأساسي فى ذلك، فهناك درجة الذكاء والتخمين والخيال والإحساس والمشاعر والإرادة والضمير، وهناك المبادىء والأخلاق والقيم وتجارب الحياة وظروف النشأة والنظم الاجتماعية وغيرها... جميع هذا الخليط يعمل بطريقة نفسية مركّبة ويسهم بنسبة أو أخرى فى تشكيل الوعي الذي تختلف نسبته من شخص لآخر، مما يجعل لكل شخص درجة من الوعي والإدراك والإستيعاب  تختلف عن وعي وإدراك واستيعاب الآخرين.
  • قضية تجديد القيادات وتأهيلها فى المجالات كافة، وما تحتاجه من بحث معمق واستراتيجيات وخطط وسياسات لإعداد قيادات شابة تعي مكانة الأمة فى دورة التاريخ، وتدرك أهمية توظيف التعليم والمعرفة والتكنولوجية الحديثة لحل مشكلات قائمة، وتفهم أن مشكللات متجذرة فى الواقع العربي كمشكلة التنمية المستدامة وتوفير الحريات والعدالة الاجتماعية، المواطنة والحقوق، المساواة والمشاركة الديمقراطية وغيرها، تحتاج الى حلول وطنية نابعة من حاجة الفرد والمجتمع العربي ومُلبّية لخصوصيته الوطنية.
  • البحث فى الأزمات والمشكلات فى الدول العربية والتركيز على تكامل الحلول فيما بينها وإذا ما تعارضت الحلول فى دولة معينة مع مصالح بقية الدول، فإنها ستكون حلولاً ناقصة تصب فى غير مصلحة الدولة ذاتها، حتى وإن بدت فى إطارها العام ملائمة لها.
  • قضية التعامل مع المفاهيم الفكرية والثقافية الجديدة فى العمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وفى وسائل تنظيم المجتمعات، وقضية الحريات والمشاركة الديمقراطية، ومنظومات العمل الوطني والسياسي العام، وضوابط ممارسة المهن وأخلاقياتها.
  • مشكلة مواكبة الأفكار والمعلومات الناتجة عن التكنولوجيا ووسائل الاتصالات الحديثة وتطبيقات البرمجة الإلكترونية التي تعتبر (لغة المستقبل)، والبحث فى المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الناتجة عن تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي ستحد من دور الإنسان فى العديد من مجالات العمل، وستؤدي إلي ظهور وظائف جديدة تتطلب مهارات عالية وخبرات رفيعة وتعليما متخصصا.
  • مشكلة القدرة على استيعاب الأفكار والقيم والثقافات ونتائج التطور الهائل فى مختلف العلوم ومنها الطب والبايوتكنولوجي وزراعة الخلايا الجذعية وصنع الأعضاء البشرية الحية، والتقدم فى الهندسة الوراثية والجينات إلى التحكم فى اختيار نوعية البشر وتحديد شكله ولونه وطوله ودرجة ذكائه، وتغيير الأساليب الحالية فى معالجة الأمراض وطرق الوقاية منها، لما له من تبعات اقتصادية واجتماعية ونفسية، وكذلك الانعكاسات السياسية والاجتماعية والتربوية والأخلاقية لتقنية زرع شرائح الكترونية فى مناطق معينة من جسم الانسان للاستدلال على صحته ورغباته وآرائه وتحديد أماكن وجوده وتحديد شروط حياته...

كما أن التسريبات العلمية تُنْبيء بتطور علمي سيغيّر من مجرى الحياة بأكملها، وسينسف منظومات فكرية وثقافىة وتعليمية وتربوية وأخلاقية قائمة، وسيُعَدَّ التطور الأخطر فى تاريخ البشرية إذا ما تحقق فعلاً، فالبحوث جارية لاحتمال ربط الشبكة الالكترونية بمركز التفكير فى دماغ الإنسان مباشرة. وعلينا أن ندرك حجم الخطورة الناتجة عن هكذا تطوّر؛ حينما يتحول الإنسان إلي مايشبه جهاز الكترونياً يتغذي بالمعلومات وفق ما تشاء الجهة المتحكمة، وعلينا أن نتصور أيضاً ما سوف يؤول إليه مصير النظام العالمي القائم ومستقبله...

ومن القضايا المهمة التي يجب أن يتصدى لها رجال الفكر والثقافة والعلم قضية التغيّر الجوهري في أفكار الشباب ومعتقداتهم، وفي نظرتهم إلى خلق الكون والطبيعة والوجود، وفى مستوى إيمانهم بالحياة وفي ما بعد الممات، خاصة بعد التقدم الهائل فى اكتشافات الفضاء، واكتشاف نظرية تعدد الأكوان بدلاً من الكون الواحد، والاستدلال على وجود كائنات حية فى كواكب أخرى وغيرها.  ربما يطول الحديث عن هذه القضايا والمنجزات التي هي جزء يسير من نتاجات الثورة الصناعية الرابعة والخامسة، ومن أجيال الحروب الجديدة التي تستهدف السيطرة على العقول والقلوب.

إن ما ذكرناه هو جزء يسير من هذه المتغيرات المتعلقة بشؤون الفكر والعقيدة والقيم والوجود والسياسة والاقتصاد والحياة الاجتماعية والأخلاق، والصحة والتعليم والعمل والعيش والأمن والسلام...

وبذلك فإن أي مشروع للتجديد سيبقي عديم الجدوى والتأثير إذا لم يستوعب هذه المشكلات ويحلّلها ويضع المقاربات اللازمة للتعامل معها، وأن يستثمر النتائج الناشئة عنها فى بناء استراتيجية عربية شاملة للتجديد فى منظومات الفكر والعلوم والثقافة والسلوك وأساليب العمل، تستوعب متطلبات العصر وتلبّي مستلزمات التقدم العالمي الحديث، وتراعي مبدأ الخصوصية الوطنية للمجتمع العربي...

من هنا يبرز سؤال مهم وجوهري يتطلب أن نحدد موقفنا منه بدقة وموضوعية، وهو:

هل إن مشروعا عربياً للتجديد كهذا الذي نتحدث عنه يستطيع أن يحقق أهدافه بمجرد تأسيس معهد أو مؤسسة أو مركز والاقتصار على نشاطات فكرية وعلمية وثقافية فقط؟

إذا كان الأمر كذلك، فإني أرى أن هذا المشروع سوف لن يختلف عما سواه من المراكز التي تملأ الفضاء وصفحات التواصل الاجتماعي الآن، ولن يكون أكثر تأثيراً من المحاولات والدعوات التي سبقته فى الزمان والمكان. ولن يستطيع مواجهة تيارات التخلف والتجهيل والإفقار والتشويه الفكري المعطلة للعقل الشائعة فى الدول العربية الآن.

إذن لابد لنا من التفكير والبحث عن وسائل مبتكرة تجعل من هذا المشروع مشروعاً عربياً متقدماً على غيره من المشاريع بما يلبّي حاجة الأمة وأقطارها العربية إلى ثورة ثقافىة شاملة، والتجديد فى مناحي الحياة كافة والسعي لبناء منظومة فكرية وثقافية عربية حديثة يؤمن بها الشباب العربي ويتبناها، تواكب منظومة الفكر العالمي، وتشكل القاعدة لبناء مشروع النهضة الحضارية العربية الحديثة ...

ومن بين تلك الوسائل على سبيل المثال:

أن تتضمن إستراتيجية المشروع محورين أساسيين يتكامل فيهما الجانب الفكري والنظري مع الجانب العملي والميداني، والجانب الأكاديمي مع التطبيق الفعلى، ويتفاعل فيه القول مع الفعل،  والطموحات المشروعة مع الواقع والإمكانات المتاحة، وفق مشاريع وبرامج عملية لاستثمار(القوى الناعمة والذكية بأنواعها ومصادرها المختلفة)، وبناء قدرات شبابية لتنفيذ هذه الرؤية وقيادة ثورة ثقافية فى أعماق المجتمع العربي.

كذلك التواصل مع المؤسسات الشعبية والرسمية فى الدول العربية والتحرك على المنظمات الدولية ذات العلاقة، لاستثمارإمكاناتها فى توفير متطلبات بناء الأطر العملية التي ينبغي أن يتحرك فيها هؤلاء الشباب.  حينذاك سنجد الكثير من الناس يلتفون حول هذا المشروع ويستجيبون لندائه، من حيث أن التجديد والنهضة لا يتحققان بإرادة السياسيين المحترفين وفعلهم فقط، ولا بدَورِ العلماء والمفكرين والمثقفين فحسب، بل قد يقوم بها أناس بسطاء يتحوّلون إلي قادة ومصلحين ومجدّدين عندما تمسّهم نار الحياة، وتتمثل فيهم قيم الحق والعدل والحرية، وتمتزج فى نقوسهم العظيمة عناصر النهضة ومقومات التجديد.

وفى هذا الاطار، يجب ألاّ يقتصر نشاط هذا المعهد على البحث والتأليف وإعداد الدراسات وابتكار الأفكار وتطوير المعرفة ووضع الخطط والنظريات فقط (على الرغم من أنها من صلب واجباته وأهدافه، وعلى الرغم من أهميتها الفائقة فى بناء المشروع فكرياً ونظرياً وتحديد رؤيته وصناعة  إستراتيجيته الشاملة )، بل إن التجديد الحقيقي يتطلب إيجاد وسائل عملية وميدانية وأذرع تنفيذية مؤثرة لإحداث التغيير المطلوب. فما فائدة الأفكار إذا لم تأخذ مجالها فى التطبيق العلمي؟

مما يتطلب أن يكون لهذا المعهد وحدات عمل فكرية وعلمية وثقافية، وفروع فى الأقطار العربية كافة لابتكار الأفكار وإعداد المشاريع والبرامج الميدانية...  ووحدات أخرى تنفيذية لنقل هذه الأفكار والمشاريع والبرامج إلي أعماق المجتمع فى الدول العربية، وفق خطة طويلة الأمد لإحداث التغيير المطلوب.

لهذا فإن هذا المعهد جاء تأسيسه استجابة لتحديات تاريخية ومعاصرة ومستقبلية، ونتيجة عجز منظومات فكرية سياسية واقتصادية واجتماعية وغيرها عن تلبية متطلبات العصر، خاصة بعد بروز التيارات السياسية المغطاة بغطاء الدين التي شوّهت الفكر والثقافة العربية المعاصرة، وأساءت للدين ذاته.

فعند الحديث عن التجديد ينبغي أن نتعمق فى أسباب عجز المنظومات الفكرية العربية القائمة، السياسية منها والاجتماعية والاقتصادية  والتربوية وغيرها.  ونقف على العوامل التي أدّت إلى تراجعها وفشلها بحيث باتت عاجزة عن أداء وظائفها المطلوبة وغير قادرة على إنجازها كما ينبغي، وعاجزة عن الاستجابة لتوفير متطلبات قضايا رئيسة للإنسان كالعدالة والمساواة والحريات، والتربية والتعليم والممارسة الديمقراطية، وحسن إدارة الثروات وتحقيق التنمية المستدامة، وتوفير الكرامة والعيش الكريم.  وعاجزة عن الإجابة العقلانية على الأسئلة المثارة عبر التاريخ، وحتى عصرنا الراهن بفعل تأثير المرجعيات التاريخية بأنواعها: دينية ، قومية متعصبة ، فلسفية ، وقبلية ...

وعاجزة عن مواكبة التحولات التي يمرُ بها العالم، مما جعل أمّتنا ودولها العربية على هامش التاريخ.

لذا فإن مشروع التجديد بهذا المفهوم يصبح ضرورة ملحّة ورسالة حياة لابد من تأديتها بإصرار وحماس ... وفقًا لمبادئ تستوعب هذه التحديات ومنها:

  • أنه مشروع عربي لا يختص بدولة عربية دون أخرى بل ساحته الوطن العربي بأجمعه، ويسعي فى ميثاقه الفكري ومنطلقاته إلي تحقيق المصلحة العربية العليا.
  • سد الفجوة بين صناع الأفكار وصناع القرار فى الوطن العربي، وهي الاشكالية التي كانت وراء فشل معظم المدارس الفكرية عبر التاريخ لتحقيق أهدافها.
  • بناء قدرات الشباب وتطوير التعليم واعتماد التكنولوجية والتحول الرقمي والتمسك بما يفرزه من قيم مادية ومعنوية وأخلاقية وإنسانية وتوظيفها فى تنمية المجتمع العربي.
  • بناء النظام المعرفي الحديث القائم على الحقيقة والتجربة وهو النظام الذي لابد من بنائه فى كل زمان ومكان حسب الظروف ودرجة التقدم والنتاج الفكري والثقافي والعلمي.
  • إحكام سلطة العقل، أي عقلنة الفكر والثقافة, والاستناد إلي العقل فى تفسير وفهم الظواهر الطبيعية والكون والإنسان وفهم العلوم الطبيعية والإنسانية، والتمييز بين ما هو متعال من صنع الإله، وبين ما هو أرضي من نتاج البشر القابل للبحث والنقد والتجديد وهو الأمر الذي يمثل جوهر تقدم الحياة الإنسانية.

بهذا المعني فإن المعهد يمثل مدرسة فكرية عربية حديثة تعنى بتجديد منظومات الفكر والثقافة والعلوم فى الوطن العربي، وتسعي لبناء مجتمع المعرفة الحديث، وتحقيق مفهوم المواطنة العربية وما يرتبط بها من حقوق وواجبات، وتعني بالتنمية المستدامة بفروعها المختلفة الاقتصادية  والسياسية وغيرها، بغية وضع الأساس لبناء مشروع المستقبل العربي وفق معايير المدنية العالمية الحديثة، مما يستوجب دراسة التيارات والمدارس الفكرية العربية، والتجارب العالمية الناجحة فى مجال التجديد دراسة نقدية علمية منهجية وموضوعية للاستفادة منها فى بناء المشروع.

 

الدكتور خضير المرشدي

المشرف العام لمجلة التجديد العربي و

رئيس المعهد العالمي للتجديد العربي

 

Published: 2021-01-31

المقالات