Archives

  • Vol. 2 No. 2 (2022)

    المعهد العالمي للتجديد العربي: المشروع الواعد

    كلمة الدكتور خضير المرشدي - رئيس المعهد العالمي للتجديد العربي.

    إبتداءً يسرني أن أهنيء الاخوات والاخوة اعضاء المعهد من المفكرين والمثقفين والعلماء بمناسبة الاحتفالية في الذكرى الثالثة لتأسيسه، متمنياً للجميع دوام الصحة والموفقية واستمرار العطاء الفكري والثقافي.

    جاءت انطلاقة المعهد استجابة لتحديات عدة، منها تحديات تاريخية متعددة تمت الإشارة إليها في مناسبات سابقة - ومنها ما يرتبط بالحاضر، في مقدمتها بروز الحركات السياسية المغطاة بغطاء الدين، والأصوليات المتطرفة القومية والدينية والمذهبية والطائفية، والفجوة العلمية الهائلة التي تفصلنا عن العالم المتقدم. ومنها تحديات مستقبلية متمثلة في عدم قدرة العرب على مواكبة التطورات العالمية في مجالات الحياة المختلفة، ومنها ذات صلة باستشراف مستقبل الوطن العربي ليأخذ مكانه الذي يستحقه في عالم متغيّر بسرعة هائلة.

    لقد حقق المعهد خلال السنوات الثلاث الماضية جملة من الإنجازات المهمّة، فكرية وثقافية وعلمية وتنظيمية، وساهم إلى حد ما في تفعيل الحركة الثقافية في الوطن العربي، وعمل بجدية وإصرار باتجاه تحقيق رؤيته الاستراتيجية وفكرته الملهمة، معتمداً على جهد المئات من المفكرين والعلماء والمثقفين والباحثين العرب الأفذاذ الذين انضووا تحت خيمة المعهد، للعمل متطوعين في إعداد البحوث والحلقات النقاشية، وإقامة الندوات، وإلقاء المحاضرات، وتنظيم ورشات العمل، وانتظام عقد المؤتمرات السنوية.

    وبصفته منظمة فكرية وعلمية وثقافية غير حكوميّة، غير حزبية، غير سياسية، وغير ربحية؛ فإن المعهد يعتمد في تمويل نشاطاته على مبادرات أعضائه وتبرعاتهم، والعمل التطوعي، في الوقت الذي يسعى فيه إلى إيجاد منافذ استثمارية استراتيجية للتمويل في مقدمتها السعي إلى تأسيس جامعة التجديد العربي للابتكار، وأكاديمية التدريب المهني.

    يسعى المعهد إلى أن يكون مدرسة فكرية عربية حديثة تُعنى بتجديد منظومات الفكر والثقافة والعلوم في الوطن العربي، وتنشر النور في أرجائه، ويهتم بقضية بناء الإنسان، والشباب العربي تحديداً، القادر على قيادة مشروع التجديد العربيّ وفق معايير المدنيّة الإنسانية المعاصرة.

    ومن ضمن اهتمامات المعهد دراسة التيارات الفكرية العربيّة والتجارب العالمية في مجال التجديد، دراسة نقدية علميّة ومنهجيّة، بغية تشخيص حالات العطب والتراجع في منظوماتها وأساليب عملها والاستفادة منها في مشروع التجديد العربي.

    وبذلك فإن المعهد لم يطرح نفسه بديلاً أو منافساً أو ممثلاً لحزب أو حركة أو جهة أو تيار سياسي، إنه مركز تفكير يسعى إلى تحقيق وحدة الفكر والثقافة العربيين، بإقامة علاقات التعاون والعمل المشترك مع المنتديات والملتقيات والجمعيات والمراكز الفكرية المرموقة في الوطن العربي والعالم، وإقامة العلاقات مع الجامعات والمعاهد العربية الرسمية والخاصة. وعلى طريق تحقيق هذا الهدف الحيوي والمهم، عقد المعهد مذكرات تفاهم وتعاون مع عدد من الجامعات والمنتديات والملتقيات والجمعيات العربية ومنها:

    • جامعة القدس العربية المفتوحة.
    • منتدى الفكر العربي في الاردن.
    • ملتقى المؤرخين ألعرب في المملكة العربية السعودية.
    • الجمعية الاردنية للعلوم التربوية.
    • جامعة ابن طفيل المغربية.
    • المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية.
    • كلية الاداب والفنون والانسانيات / جامعة منوبة – تونس.

    وإن الاتصالات مستمرة لعقد المزيد من الاتفاقيات مع كافة الجهات الفكرية والثقافية والجامعات في الوطن العربي.

    تنبع رؤية المعهد البعيدة الأمد من حاجة الدول العربية لتجديد منظوماتها الفكرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والعلمية والتربوية والتعليمية والدينية واللغوية والأدبية والنفسية والأنثروبولوجية والفلسفية والتكنولوجية والقانونية، وتفعيل الترجمة وتحويلها إلى مؤسسة تطبيقية ضمن مشاريع المعهد المستقبلية.

    هذه المنظومات شكّلت عبر عقود من الزمن وخلال المئة سنة الأخيرة (المحتوى الوظيفي للقومية العربية) التي حققت بها نجاحات كثيرة، مثلما تعرضت لإخفاقات خطيرة دفعت بالأمة العربية ودولها إلى حالٍ من التراجع والتردّي والتخلف والانهيار والإفقار والتجهيل والاستلاب؛ ما يستوجب على المفكر والمثقف العربي التفكير في تجديد المحتوى الوظيفي للقومية العربية، وبناء فكر عربي حديث يستلهم القيم الحضاريّة العربية والإنسانية، ويستوعب متطلبات الحاضر، ويواكب التطور والتقدم العالمي في المجالات العلمية والتكنولوجية والتحول الرقمي واقتصاد المعرفة ونظرية المعرفة وسلطة العقل وإحكام المنطق.

    ويرفد الثقافة العربيّة بمصادر التجدّد الدائم وأدواته، وتستمدّ منه الأمة عوامل نهضتها وتقدّمها في الحاضر والمستقبل.

    اعتمد المعهد لتحقيق رؤيته على فكرة ملهمة ارتكزت على ركنين اساسيين هما بناء مجتمع المعرفة الحديث والتنمية الإنسانية ودراسة أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية، وما يتعلق بالتكنولوجية الرقمية المتعددة الاختصاصات، ومبدأ المواطنة العربية القائم على ضمان الحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية للإنسان العربي، وفي أن يختار حق الإقامة والعمل والعيش في أي جزء من الوطن العربي، مثلما تترتب عليه واجبات والتزامات تجاه البلد الذي يختاره.

    هذه الفكرة استُمدت من مبدأ مفاده أهمية بناء دولة المواطنة العربية المستندة إلى احترام الإرادات المشتركة لفئات المجتمع وأفراده في أي من الدول العربية وفي عموم الوطن العربي الكبير، والتي سيتم تناولها في مؤتمر المعهد الثالث للعام ٢٠٢٣م.

    وتمثل فكرته الملهمة حلقة الوصل بين ما هو مادي وما هو فكري ومعنوي، وتهيئ المجال الحيوي لإظهار قدرات الإنسان في استثمار مكونات البيئة لبناء قاعدة مجتمع المعرفة، بما يجعل من الوطن العربي شريكاً للعالم في بناء المدنية المعاصرة وجزءًا فاعلًا فيها، وهذا لا يلغي مبدأ التمسك والاعتزاز بقيم التراث العربي الإسلامي ومنجزات الأمة الحضارية وخصوصياتها الوطنية والقومية، كما هو حال الأمم والدول والشعوب المتقدمة في الغرب والشرق التي اعتنقت مبدأ الشراكة في صنع المدنية وأصبحت جزءًا منها وتمسكت في ذات الوقت بتاريخها وتراثها وخصوصياتها القومية.

    من المبادئ المهمّة لمشروع التجديد العربي، اعتماد ساحة عمله الوطن العربي الكبير، بحدوده التاريخية المعروفة، وهدفه الرئيسي هو الحفاظ على مصالح الأمة العربية العليا وأهدافها في تحقيق النهضة والوحدة بإطار من التنوع والتعددية واحترام الخصوصية الوطنية للدول العربية، وحرية الاختيار والانتماء، وتنوع مصادر المعرفة، وتوطين العلم والتكنولوجيا الرقمية، وتوسيع نطاق الترجمة لمختلف اللغات لما لها من دور في خلق عملية التفاعل مع الثقافات، وتحقيق العدالة الاجتماعية التي تسهم في تحفيز الإنسان العربي على الابتكار والإبداع.

    من مبادئ المعهد الثابتة، إنه لا يتعاطى  العمل الحزبي بأي شكل من أشكاله، ولن يتبنى إتجاهًا أو موقفًا سياسيًا أو انتماء دينيًّا أو طائفيًّا أو مذهبيّا معيّنًا، ولا يعنى بممارسة سياسية يوميّة للأنظمة العربية، ولن ينحاز لدولة أو جهة أو حزب أو فرد، ولن ينخرط في محور من محاور الصراع  العربية والدولية الجارية الآن أو التي ستحدث في المستقبل.

    إنه مشروع لفكر عربي حديث يعتمد في مشروعه على تحفيز التفكير خارج الأطر المألوفة، وعلى حرية الفكر واحترام الرأي والرأي الآخر، والدقة والعلمية والواقعية والنقد المعمّق والعصف الذهنيّ والابتكار الحرّ في مختلف فروع المعرفة.

    ومن ميزات المعهد الهامة، إعداد خطط واستراتيجيات عمل (خمسيّة) بما تعنيه من تخطيط علمي، وتنفيذ مرن، وتقييم نقدي للأداء والإنجاز، مؤكداً أنّ رؤيته وفكرته الملهمة عموديّةٌ عميقة ثابتة غير قابلة للتغيير، أما غاياته وأهدافه ومشاريعه المعبرة عن رؤيته وفكرته فهي أفقية خاضعة للمراجعة والتغيير في الزمان والمكان وحسب الظروف.

    يلتزم المعهد بقيم أخلاقية رفيعة تأتي في مقدمتها قيمة الحرية والصدق والاستقلالية والنزاهة والإصرار على النجاح مهما كانت التحديات ومهما طال الزمن، يضمن حرية النشر والتفكير، حرية الضمير والاجتهاد، عدم المساس بحريات الآخرين أو قمعها، وحرية الرأي والانتماء واختيار المعتقدات بما لا يتقاطع مع حرية الاختيار للآخر وانتماءاته، (لايجوز أن تجيز لنفسك ما لا تجيزه للآخرين أو أن تقوم  بعمل وتُعيب على الآخرين أن يأتوا بمثله، وأن تصدر أحكاماً وتحرم الآخر من نقدها أو الإتيان بمثلها أو أحسن منها).

    ويؤمن المعهد بأن الفكر الإنساني متفاعل ومتواصل، وهو عبارة عن حلقات متصلة ببعضها في عصر يتميز بتقدم رهيب في علم  الاتصالات ونقل المعلومات والتحول الرقمي؛ لذلك، فإن الفكر الذي يسعى المعهد لبنائه، لا ينفصل عن تراث الأمة الفكري، ففي الوقت نفسه يُعدُّ امتدادًا للفكر الإنساني الحديث متفاعلًا معه متأثرًا به، ومؤثرًا فيه.

    كما وإن من أهم مبادىء المعهد اعتماده النقد العلمي الموضوعي الجريء والشجاع لكل الأفكار والنظريات والتيارات ومنظومات الفكر والخطابات بمختلف أنواعها، والدراسةَ والنقدَ لكل ما أنتجه البشر من معارف وعلوم وأفكار وثقافات عبر التاريخ.

    ويؤمن المعهد بأن الباحث العلمي الرصين ينبغي أن يكون محصناً من تأثير التزاماته وانتماءاته الأيديولوجية والدينية  والعرقية والقومية والسياسية والحزبية وغيرها - بما يتيح له أن يجيب بحرية تامة عن أسئلة جوهرية تتعلق بيقينيّات تاريخية جامدة، وخطابات حاضرة متخلفة، وأطر حديدية مقفلة، كانت وما زالت تشكل أهم  معوقات تطور الفكر العربي، وتمثل تحديات لإيقاف تجدده، وعوامل معطلة للعقل ومجافية للمنطق.

    وانطلاقاً من أن التجديد يمثل رسالة حياة وضرورة إنسانية دائمة، فإن مبررات السير في طريق التجديد كي تتجاوز الأمة حالَ التراجع والتردي والتخلف، تُعد مبررات ملحّة وملزمة لكل مفكر ومثقف وعالم في الوطن العربي، ولكل مواطن عربي حصيف، رغم ما يعترض هذا الطريق الوعر من عقبات وعراقيل ومحاولات إحباط وتيئيس وتشويه لمنطلقات هذا المشروع ومقاصده وأهدافه النبيلة الوطنية والعربية والإنسانية من قبل جهات معادية للنهضة، ولكل فكرة ناجحة، ومشروعٍ يسعى إلى زرع الأمل في نفوس أضاعها اليأس في دهاليز السياسة الفاشلة، وكواليس التديّن المزيّف، والتشبث الكاذب بإيديولوجيات مقفلة - كل ذلك لكونه مشروعًا عربيًّا أصيلًا متمسكًا بمصالح الأمة العربية، وباستقلاليةٍ في زمن فقدت فيه هذه المقاييس معانيها واعتبارها، وهذا هو شأن المشاريع العظيمة والرائدة عبر التاريخ.

    يؤمن المعهد أن لايجب إخضاع القومية العربية للتجاذب بين الدين والسياسة والأيديولوجيا لان مثل هذا الفعل سوف يبقيها أسيرة سجن العزلة، ويفقدها القدرة على تكوين محتوى جديد متطور منسجم مع ذاته ومع نتاجات العصر.

    لم تكن العروبة يوماً ما دينية، بل هي مدنية علمانية مؤمنة، واذا تبصرنا في أركان الإيمان التي أنزلها الله على البشر، ويخاطَب بها المسلمون خاصة ليكتمل إيمانهم، سنجد هذه الحقيقة جلية واضحة دون لبس أو تأويل. كما وأن العروبة لم تتعصب لتاريخ العرب دون غيرهم، لأنها أثّرت وتأثّرت وتفاعلت عبر الزمن مع تاريخ أمم وشعوب أخرى وثقافاتهم ، واشتركت معها في بناء الحضارة العربية والإسلامية والإنسانية، وكوّنت معهم  محتواها الفكري في الزمان والمكان نتيجة هذا التأثير والتأثر والتفاعل.

    ولم تكن العروبة بطبيعتها متعصبة أو عدائية، بل ان الحق والعدل والتسامح من ميزاتها الاساسية، وإنها لن تنتقل إلى فضاء الإنسانية دون (ديمقراطية) تراعي الخصوصية الوطنية والقومية وتعبر عن حاجة المجتمع العربي في توفير مستلزمات تقدمه.

    إن العروبة الضامنة لوحدة الفكر والثقافة والاقتصاد، المستلهمة لقيم التراث، المُحترِمة لعقل الإنسان والمستثمرة فيه، المؤمنة بالتنوع والتعددية ،وبخصوصيات الدول العربية وعاداتها وتطلعاتها، والملتزمة بالعدالة الاجتماعية نظاماً لتفجير طاقات الإنسان، وبالتنمية البشرية المستدامة وسيلةً، ومؤمنة بأهمية العلم والتكنولوجيا الرقمية والابتكار والتفكير الحر والمواطنة الرقمية، ونظرية المعرفة الحديثة، وسلطة العقل وإحكام المنطق، سبيلًا لبناء المجتمع العربي وإدارته. وهو المحتوى ذاته الذي يعمل مشروع المعهد في التجديد العربي على صناعته كي يكون مرتكزاً لبناء فكر عربي حديث.

     

    إفتتاحية العدد الرابع

    الأستاذ الدكتور محمد نجيب بوطالب

    رئيس هيئة التحرير

    يأتي إصدار العدد الرابع من مجلة "التجديد العربي" متزامنا مع احتفالية المعهد العالمي للتجديد العربي بذكرى تأسيسه الثالثة. وهي احتفالية تتميز بعدة ميزات أهمها أن معهدنا يشق طريقه بثبات وما يفتأ يحقق أهدافه التي رسمتها هيئته التأسيسية منذ عام  2019إلى اليوم بتؤدة وثبات. كما تتميز بالتقدم في تنفيذ توجهات وبرامج هيئة التحرير باتجاه العمل على التنويع في المحاور والانفتاح على الباحثين الشبان وتغطية القضايا الملحة في المجالات المتناولة بحثا وتدقيقاً وبإصدار الأعداد في آجالها دون تأخير. وتعتبر "مجلة التجديد" إحدى أهم مؤسسات معهدنا الواعدة بما تحمله من آمال لدعم المسيرة  الفكرية والعلمية والثقافية التجديدية في الوطن العربي، فقد أصبحت مجلتنا المحكمة تشد اهتمام الباحثين والمفكرين في المنطقة العربية بمختلف مشاربهم وتخصصاتهم وفي سياق توجهات المعهد ومجلته ضمن  مسار التجديد العربي.

    وإذ تشكر هيئة التحرير كل المتدخلين والمشرفين من داخل المعهد على دعمهم وتشجيعهم الهيئة المديرة للمجلة على عملها التطوعي الدائم و على حرصها على جعل المجلة في المستوى المأمول فهي تشكر كل من وضعوا فيها الثقة والأمل لتحقيق نشر ذي مستوى مرموق ومكانة محترمة علمياً. مع اعتذارنا عن أي تقصير قد يحصل خارج نطاق الإرادة والقصد.

     و في خاتمة هذه الكلمة الموجزة يسعدنا أن نتوجه بجزيل عبارات التقدير إلى رئيس معهدنا الدكتور خضير المرشدي على تشجيعه الدائم وحرصه المستمر على استقلالية عمل مجلة التجديد، كما نتوجه إلي سعادته و كل نوابه ومساعديه بأسمى عبارات التهنئة بالذكرى الثالثة لانطلاقة معهدنا المباركة، و كل عام و أنتم بخير.

  • Vol. 1 No. 1 (2021)

    التجديد ضرورة الحاضر ورسالة المستقبل

     

    لازمت فكرة التجديد الحياة الإنسانية منذ نشأتها الأولى وفى مراحل التاريخ كافة ، حيث  لا تكاد مرحلة تخلو من محاولة للتجديد والتتنوير والتغيير، فكانت هدفا لجميع الأديان والرسالات ولعدد من الحركات والأحزاب والمدارس والشخصيات.

    قد لا يتسع المجال فى هذه الكلمة للحديث عن محاولات التجديد والتغيير التي قام بها عدد من المفكرين والثقفين عبر التاريخ العربي وتحديداً خلال المرحلة التي تلت سقوط بغداد على يد المغول عام 1258م – 656 هـ... والتي ما يزال صدى تلك المحاولات وتأثيرها الفكري حاضراً فى كتب المؤلفين وفى إصدارات الباحثين ، وغالبً ما يتم الإسترشاد بما أنتجته من أفكار وثقافات فى أي مشروع للإصلاح والتجديد والنهضة.  كما أجد أنه من غير المناسب هنا أن نتناول تاريخ الثورات وأنظمة  الحكم العربية التي قادتها شخصيات أو حركات وأحزاب وطنية وقومية منذ منتصف القرن العشرين ، والتي عشنا جزءا من مراحل نشأتها ورفعنا بعضنا من شعاراتها الداعية لرفض الهيمنة والتبعية والتجزئة والاستعمار الخارجي من جهة ، وتحرير فلسطين و الأحواز والأراضي العربية المحتلة والقضاء على الظلم والفقر والجوع والجهل والأمية والمرض والتخلف والطغيان والاستبداد الداخلي من جهة ثانية. وناضلنا مستبشرين بتحقيق الحلم الكبير فى تغيير حضاري شامل فى حياة الفرد والمجتمع وصولاً إلى قيام الدولة العربية الحرة الموحدة ، دولة الحق والعدل والقانون والمساواة والمواطنة الحقة.  

    إن تلك المحاولات رغم ما أفرزته من نتايج فكرية وثقافية فى زمانها ومكانها وظروفها ، وأخذت مداها فى التأثير الفكري بين فئات واسعة من الشباب والباحثين لحقبات زمنية لاحقة، إلاّ أنها بقيت أفكاراً حبيسة فى بطون الكتب بوصفها جزءا من التراث، وفى حدود البحث وإعداد الدراسات، فيما عدا قلة منها أخذت حيّزاً من الانتشار والتأثير اللذين كان لهما الأثر فى تحفيز العقل العربي فى مراحل متعددة من القرن العشرين والتي كانت سبباً فى نشر الشعور القومي لدي الشباب العربي ومهَّدت الطريق لإقامة ثورات وطنية تحررية.  إن هذه الثورات وتجارب الحكم فى البلدان العربية على الرغم مما حققته من إنجازات سياسية واقتصادية واجتماعية مهمة، إلا إنها اخفقت فى تحقيق النهضة الحضارية العربية الشاملة، لأسباب وأزمات داخلية معروفة، وتحديات خارجية معلومة لم يكن أولها احتلال الأحواز العربية وفلسطين وأراضِ عربية أخرى، ولن تنتهي  باحتلال العراق وتدمير دولته الوطنية ومؤسساته المجتمعية أو بتدمير سوريا وتفتيتها وتهجير شعبها وإقصاء قواها الوطنية وتهميشها، أو بتجزئة اليمن وليبيا وإنهاك شعبيهما بتدخلات خارجية وحروب داخلية عبثية أو ما يجري من صراعات سياسية وفئوية بأقطار عربية فى مشرق الوطن العربي ومغربه.

    إنها أزمات داخلية مركبة وتحديات خارجية خطيرة ومستمرة، حوّلت الحلم الكبير، حلم الدولة العربية الديمقراطية الموحدة إلى حالة خوف دائم من انهيار الدولة القطرية ذاتها وتجزئتها وشرذمتها إلي كيانات هزيلة نتيجة هيمنة تيارات وتكتلات وأحزاب ذات أفكار وسياسات طائفية وعنصرية متطرفة متخلّفة وشاذة، شكّلتْ وتشكّل خطرا حقيقياً على وحدة المجتمعات العربية وأمنها واستقرارها وتقدمها، وكان من أهم مخرجاتها تنفيذ مخطط خطير من التجهيل والإفقار والفساد والإفساد والتجويع المادي والمعنوي والفكري والثقافى والأخلاقي والتربوي التعليمي والعلمي والمعرفى...

    وأصبح التحدي الأكبر الذي تواجهه الدول العربية هو كيفية المحافظة على الوحدة الوطنية وتماسك المجتمعات العربية، وكيفية القدرة على سد الفجوة الهائلة والمتعاظمة من التراجع والتخلف بينها وبين دول العالم المتقدم. ولن تستطيع الأمة تجاوز هذه الفجوة الخطيرة إلا بمشروع لتجديد شامل وفق رؤية بعيدة الأمد تهدف إلى بناء فكر عربي حديث يستلهم القيم الحضارية العربية والإنسانية، يستوعب متطلبات الحاضر ويواكب التطور العالمي فى مختلف المجالات العلمية والتكنولوجية والتحول الرقمي ونظام المعرفة الحديث وسلطة العقل وإحكام المنطق... وينطلق من فكرة ملهمة لبناء مجتمع المعرفة وتحقيق مفهوم المواطنة العربية، معتمداً فى ذلك على دور التربية والتعليم فى تطوير قدرات الشباب وعلى تطبيقات التكنولوجية الرقمية فى تكوين المعرفة، ويسعى لبناء استراتيجية فكرية وعلمية وثقافية شاملة للتجديد، تتضافر فى بنائها جهود المفكرين والعلماء والمثقفين والمبدعين والخبراء فى الدول العربية، وتتداخل فيها طاقات الشباب، وإمكانات ساندة من منظمات عربية ودولية خاصة تلك المهتمة بتنمية المجتمع وتطويره ...

    فمن بين القضايا الأساسية والمصيرية التي يجب أن يتصدى لها (مشروع التجديد) فكرياً وعلمياً وثقافياً هي تلك التي تتعلق بحياة الأمة وهويتها وتراثها وحاضرها ومستقبلها ومنظومة قيمها ورسالتها ووحدة اقطارها ومصالح وإرادات مجتمعاتها وتماسكها ومنها:

    • إبراز الأبعاد الروحية والحضارية والإنسانية للعروبة من حيث إنها عاشت دوما فى صيغة موحدة مع الإسلام الذي غذاها بقيم مادية وروحية وأخلاقية جديدة فى حينها، وأعطاها شموليتها وأنسانيتها، والتركيز على إبراز هذه الحقيقة التي شكّلت الأساس المتين لنشوء الحضارة العربية ـ الإسلامية وازدهارها، وتأكيد أهميتها فى العصر الراهن مدخلا للحوار بين التيارات الفكرية والسياسية فى الوطن العربي لبلوغ مستوى جديد من وحدة النضال فى مواجهة الأخطار التي تهدد الدول العربية من جهة ، وفى تحقيق الإرادات والمصالح المشتركة لهذه التيارات من جهة أخرى.
    • تناول التحديات الرئيسية التي تواجه العروبة بوصفها هوية وانتماءً ورسالة إنسانية بمزيد من البحث والتحليل والدراسة وهي التحديات المتعلقة بالتجزئة والتفتيت والإفقار والتخلف، وفقدان الاتجاه الحضاري...فعندما يتم حسم إشكالية التجزئة والتفتيت بإطار يحقق الوحدة الوطنية، وعندما يتم التغلب على حالة التخلف بالانفتاح على العالم ومواكبة طريق التقدم الحديث... فإن إشكالية تحقيق التقدم الحضاري المساهمة فى بناء المدنية المعاصرة يتقرر مصيره من الحقيقة التي يعيشها العالم اليوم ؛ تلك هي أن العقيدة مهما كان نوعها تمثل خيارا حرا ورأيا شخصيا ، للفرد كامل الحرية فى اختياره والانتماء إليه . ولاشك أن من أهم الأسباب التي تعيق السير على طريق تحقيق الوحدة العربية هو أن هذا الموضوع لم يطرح بمضمونه العميق والواضح على عامة الناس لاستيعابه واعتماده مبداً لحوار بين تيارات الأمة لتحديد خياراتها فى أسلوب تحقيق الوحدة بعيداً عن تأثيرات الدين واستخداماته الإديولوجية وتوظيفه السياسي.
    • البحث فى قضايا جوهرية وعناوين مصيرية كمفهوم الوطنية الصحيحة، الدولة والسلطة، مرجعية الدولة العليا، مفهوم العقيدة، الظاهرة الدينية الساسية، النزعة الطائفية والعنصرية، القبلية والعشائرية والمناطقية، الهوية والتنوع، الأقليات، التراث، العدالة الاجتماعية، الوحدة فى ظل الواقع الحالي، قضية الحريات والديمقراطية وغيرها.
    • تجديد الوسائل والبنى التحتية لمشروع المستقبل العربي، وأهمية وضع مقاربات فكرية وثقافية وسياسية تستوعب المتغيرات الإقليمية والدولية بما يسهم فى بناء هذا المشروع على أسس حديثة.
    • مشكلة البناء الحضاري للأمة والقدرة على إعداد عناصره الرئيسية التي يمثل كل منها إشكالية كبيرة أمام أي مشروع للتجديد، وتحتاج إلي جهد كبير من البحث والتحليل وابتكار الأفكار والبرامج العملية لمعالجتها، وهي:
    • إشكالية بناء الإنسان العربي.
    • إشكالية استغلال الطبيعة والأرض العربية، واستغلال الموارد فى عملية التجديد والبناء والتقدم، واستثمار الوقت وحسابات الزمن. هذه الإشكاليات لكي تتفاعل مع بعضها وتنتج (حضارة) لابد لها من (قيمة مُلهِمة) تحقق لها هذا التفاعل والانسجام، تمثل ذلك على مر التاريخ بوجود فكرة دينية أو رسالة سماوية أو دافع أخلاقي، وهو الأمر الذي يمثل الآن ((مشكلة كبرى)) في حياة الأمة، من حيث إن الفكرة الدينية المُلهِمة قد تراجعت بل واختفت تماماً أمام انتشار حزمة من الأفكار الفاسدة والمتخلفة والمخرّبة والمفرّقة التي تعمل باسم الدين، وظهور سيل من الحركات والأحزاب والتيارات السياسية المغطاة بغطاء الدين ذات النزاعات الباطنية الهدّامة التي تُجهض أية فكرة مُلهِمة لنشوء الحضارة وتعيق أي مشروع للنهضة والتجديد والتقدم.

    إن هذه المشكلة تعد من التحديات الرئيسية الكبرى التي تواجه الأمة فى جميع أقطارها، وتحتاج الي معالجات فكرية وثقافية وقانونية وميدانية شاملة وابتكار الفكرة المُلهِمة المتمثلة فى بناء مجتمع المعرفة وتحقيق المواطنة العربية.

    • مشكلة تحقيق التواصل الفكري والعلمي والثقافى الدائم مع الأمم والشعوب بهدف التفاعل مع حضاراتها واستيعاب ثقافاتها، تشكل الآن معضلة مهمة يتوجب على أي مشروع للتجديد العربي أن يلتفت إليها وفق برنامج دائم ومستمر، حيث إن الثقافات تتكامل مع بعضها، ثم إن القارىء الجيد للتاريخ يعلم أن الحضارات تمثل حلقات متصلة فى سلسلة واحدة، عندما تدق الساعة بأفول واحدة منها، فإن حضارة أخرى فى مكان ما من العالم تتهيأ للنشوء والازدهار والتطور.
    • ومن القضايا المهمة التي يجب أن يتصدى لها مشروع التجديد القضية المتعلقة بمشكلة الثقافة بوصفها أسلوب حياة وسلوكا اجتماعيا وشبكة علاقات إنسانية ومنظومة قيم وأخلاق وحالة وعي وفهم واستيعاب وجمال وذوق، وعمل وزراعة وصناعة وخدمات وإنتاج. والتعامل معها ليس على أساس أنها مصدر للمعرفة والعلم والتعلم والكتابة والخطابة فحسب، بل إنها الفضاء الواسع التي تنشأ فى رحابه الحضارة وتزدهر فى أجوائه الحياة.  وإذا ما تراجعت الثقافة لأي سبب من الأسباب، فإن ذلك مدعاة لظهور بدائل ميّتة وأصنام عديمة الحياة، وستبرز تيارات تقتل أي فكرة للبناء وأي دعوة للتجديد والتقدم، ولا شك أن هذا هو حال أمتنا الآن فى معظم أقطارها.
    • معالجة مشكلة الوعي التي تتأتى من كونه نتاج عمليات ذهنية وشعورية معقدة تتفاعل فيما بينها. فالتربية والتعليم والتعلّم لاتنفرد بتشكل الوعي لدى الإنسان وليس هي العامل الأساسي فى ذلك، فهناك درجة الذكاء والتخمين والخيال والإحساس والمشاعر والإرادة والضمير، وهناك المبادىء والأخلاق والقيم وتجارب الحياة وظروف النشأة والنظم الاجتماعية وغيرها... جميع هذا الخليط يعمل بطريقة نفسية مركّبة ويسهم بنسبة أو أخرى فى تشكيل الوعي الذي تختلف نسبته من شخص لآخر، مما يجعل لكل شخص درجة من الوعي والإدراك والإستيعاب  تختلف عن وعي وإدراك واستيعاب الآخرين.
    • قضية تجديد القيادات وتأهيلها فى المجالات كافة، وما تحتاجه من بحث معمق واستراتيجيات وخطط وسياسات لإعداد قيادات شابة تعي مكانة الأمة فى دورة التاريخ، وتدرك أهمية توظيف التعليم والمعرفة والتكنولوجية الحديثة لحل مشكلات قائمة، وتفهم أن مشكللات متجذرة فى الواقع العربي كمشكلة التنمية المستدامة وتوفير الحريات والعدالة الاجتماعية، المواطنة والحقوق، المساواة والمشاركة الديمقراطية وغيرها، تحتاج الى حلول وطنية نابعة من حاجة الفرد والمجتمع العربي ومُلبّية لخصوصيته الوطنية.
    • البحث فى الأزمات والمشكلات فى الدول العربية والتركيز على تكامل الحلول فيما بينها وإذا ما تعارضت الحلول فى دولة معينة مع مصالح بقية الدول، فإنها ستكون حلولاً ناقصة تصب فى غير مصلحة الدولة ذاتها، حتى وإن بدت فى إطارها العام ملائمة لها.
    • قضية التعامل مع المفاهيم الفكرية والثقافية الجديدة فى العمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وفى وسائل تنظيم المجتمعات، وقضية الحريات والمشاركة الديمقراطية، ومنظومات العمل الوطني والسياسي العام، وضوابط ممارسة المهن وأخلاقياتها.
    • مشكلة مواكبة الأفكار والمعلومات الناتجة عن التكنولوجيا ووسائل الاتصالات الحديثة وتطبيقات البرمجة الإلكترونية التي تعتبر (لغة المستقبل)، والبحث فى المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الناتجة عن تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي ستحد من دور الإنسان فى العديد من مجالات العمل، وستؤدي إلي ظهور وظائف جديدة تتطلب مهارات عالية وخبرات رفيعة وتعليما متخصصا.
    • مشكلة القدرة على استيعاب الأفكار والقيم والثقافات ونتائج التطور الهائل فى مختلف العلوم ومنها الطب والبايوتكنولوجي وزراعة الخلايا الجذعية وصنع الأعضاء البشرية الحية، والتقدم فى الهندسة الوراثية والجينات إلى التحكم فى اختيار نوعية البشر وتحديد شكله ولونه وطوله ودرجة ذكائه، وتغيير الأساليب الحالية فى معالجة الأمراض وطرق الوقاية منها، لما له من تبعات اقتصادية واجتماعية ونفسية، وكذلك الانعكاسات السياسية والاجتماعية والتربوية والأخلاقية لتقنية زرع شرائح الكترونية فى مناطق معينة من جسم الانسان للاستدلال على صحته ورغباته وآرائه وتحديد أماكن وجوده وتحديد شروط حياته...

    كما أن التسريبات العلمية تُنْبيء بتطور علمي سيغيّر من مجرى الحياة بأكملها، وسينسف منظومات فكرية وثقافىة وتعليمية وتربوية وأخلاقية قائمة، وسيُعَدَّ التطور الأخطر فى تاريخ البشرية إذا ما تحقق فعلاً، فالبحوث جارية لاحتمال ربط الشبكة الالكترونية بمركز التفكير فى دماغ الإنسان مباشرة. وعلينا أن ندرك حجم الخطورة الناتجة عن هكذا تطوّر؛ حينما يتحول الإنسان إلي مايشبه جهاز الكترونياً يتغذي بالمعلومات وفق ما تشاء الجهة المتحكمة، وعلينا أن نتصور أيضاً ما سوف يؤول إليه مصير النظام العالمي القائم ومستقبله...

    ومن القضايا المهمة التي يجب أن يتصدى لها رجال الفكر والثقافة والعلم قضية التغيّر الجوهري في أفكار الشباب ومعتقداتهم، وفي نظرتهم إلى خلق الكون والطبيعة والوجود، وفى مستوى إيمانهم بالحياة وفي ما بعد الممات، خاصة بعد التقدم الهائل فى اكتشافات الفضاء، واكتشاف نظرية تعدد الأكوان بدلاً من الكون الواحد، والاستدلال على وجود كائنات حية فى كواكب أخرى وغيرها.  ربما يطول الحديث عن هذه القضايا والمنجزات التي هي جزء يسير من نتاجات الثورة الصناعية الرابعة والخامسة، ومن أجيال الحروب الجديدة التي تستهدف السيطرة على العقول والقلوب.

    إن ما ذكرناه هو جزء يسير من هذه المتغيرات المتعلقة بشؤون الفكر والعقيدة والقيم والوجود والسياسة والاقتصاد والحياة الاجتماعية والأخلاق، والصحة والتعليم والعمل والعيش والأمن والسلام...

    وبذلك فإن أي مشروع للتجديد سيبقي عديم الجدوى والتأثير إذا لم يستوعب هذه المشكلات ويحلّلها ويضع المقاربات اللازمة للتعامل معها، وأن يستثمر النتائج الناشئة عنها فى بناء استراتيجية عربية شاملة للتجديد فى منظومات الفكر والعلوم والثقافة والسلوك وأساليب العمل، تستوعب متطلبات العصر وتلبّي مستلزمات التقدم العالمي الحديث، وتراعي مبدأ الخصوصية الوطنية للمجتمع العربي...

    من هنا يبرز سؤال مهم وجوهري يتطلب أن نحدد موقفنا منه بدقة وموضوعية، وهو:

    هل إن مشروعا عربياً للتجديد كهذا الذي نتحدث عنه يستطيع أن يحقق أهدافه بمجرد تأسيس معهد أو مؤسسة أو مركز والاقتصار على نشاطات فكرية وعلمية وثقافية فقط؟

    إذا كان الأمر كذلك، فإني أرى أن هذا المشروع سوف لن يختلف عما سواه من المراكز التي تملأ الفضاء وصفحات التواصل الاجتماعي الآن، ولن يكون أكثر تأثيراً من المحاولات والدعوات التي سبقته فى الزمان والمكان. ولن يستطيع مواجهة تيارات التخلف والتجهيل والإفقار والتشويه الفكري المعطلة للعقل الشائعة فى الدول العربية الآن.

    إذن لابد لنا من التفكير والبحث عن وسائل مبتكرة تجعل من هذا المشروع مشروعاً عربياً متقدماً على غيره من المشاريع بما يلبّي حاجة الأمة وأقطارها العربية إلى ثورة ثقافىة شاملة، والتجديد فى مناحي الحياة كافة والسعي لبناء منظومة فكرية وثقافية عربية حديثة يؤمن بها الشباب العربي ويتبناها، تواكب منظومة الفكر العالمي، وتشكل القاعدة لبناء مشروع النهضة الحضارية العربية الحديثة ...

    ومن بين تلك الوسائل على سبيل المثال:

    أن تتضمن إستراتيجية المشروع محورين أساسيين يتكامل فيهما الجانب الفكري والنظري مع الجانب العملي والميداني، والجانب الأكاديمي مع التطبيق الفعلى، ويتفاعل فيه القول مع الفعل،  والطموحات المشروعة مع الواقع والإمكانات المتاحة، وفق مشاريع وبرامج عملية لاستثمار(القوى الناعمة والذكية بأنواعها ومصادرها المختلفة)، وبناء قدرات شبابية لتنفيذ هذه الرؤية وقيادة ثورة ثقافية فى أعماق المجتمع العربي.

    كذلك التواصل مع المؤسسات الشعبية والرسمية فى الدول العربية والتحرك على المنظمات الدولية ذات العلاقة، لاستثمارإمكاناتها فى توفير متطلبات بناء الأطر العملية التي ينبغي أن يتحرك فيها هؤلاء الشباب.  حينذاك سنجد الكثير من الناس يلتفون حول هذا المشروع ويستجيبون لندائه، من حيث أن التجديد والنهضة لا يتحققان بإرادة السياسيين المحترفين وفعلهم فقط، ولا بدَورِ العلماء والمفكرين والمثقفين فحسب، بل قد يقوم بها أناس بسطاء يتحوّلون إلي قادة ومصلحين ومجدّدين عندما تمسّهم نار الحياة، وتتمثل فيهم قيم الحق والعدل والحرية، وتمتزج فى نقوسهم العظيمة عناصر النهضة ومقومات التجديد.

    وفى هذا الاطار، يجب ألاّ يقتصر نشاط هذا المعهد على البحث والتأليف وإعداد الدراسات وابتكار الأفكار وتطوير المعرفة ووضع الخطط والنظريات فقط (على الرغم من أنها من صلب واجباته وأهدافه، وعلى الرغم من أهميتها الفائقة فى بناء المشروع فكرياً ونظرياً وتحديد رؤيته وصناعة  إستراتيجيته الشاملة )، بل إن التجديد الحقيقي يتطلب إيجاد وسائل عملية وميدانية وأذرع تنفيذية مؤثرة لإحداث التغيير المطلوب. فما فائدة الأفكار إذا لم تأخذ مجالها فى التطبيق العلمي؟

    مما يتطلب أن يكون لهذا المعهد وحدات عمل فكرية وعلمية وثقافية، وفروع فى الأقطار العربية كافة لابتكار الأفكار وإعداد المشاريع والبرامج الميدانية...  ووحدات أخرى تنفيذية لنقل هذه الأفكار والمشاريع والبرامج إلي أعماق المجتمع فى الدول العربية، وفق خطة طويلة الأمد لإحداث التغيير المطلوب.

    لهذا فإن هذا المعهد جاء تأسيسه استجابة لتحديات تاريخية ومعاصرة ومستقبلية، ونتيجة عجز منظومات فكرية سياسية واقتصادية واجتماعية وغيرها عن تلبية متطلبات العصر، خاصة بعد بروز التيارات السياسية المغطاة بغطاء الدين التي شوّهت الفكر والثقافة العربية المعاصرة، وأساءت للدين ذاته.

    فعند الحديث عن التجديد ينبغي أن نتعمق فى أسباب عجز المنظومات الفكرية العربية القائمة، السياسية منها والاجتماعية والاقتصادية  والتربوية وغيرها.  ونقف على العوامل التي أدّت إلى تراجعها وفشلها بحيث باتت عاجزة عن أداء وظائفها المطلوبة وغير قادرة على إنجازها كما ينبغي، وعاجزة عن الاستجابة لتوفير متطلبات قضايا رئيسة للإنسان كالعدالة والمساواة والحريات، والتربية والتعليم والممارسة الديمقراطية، وحسن إدارة الثروات وتحقيق التنمية المستدامة، وتوفير الكرامة والعيش الكريم.  وعاجزة عن الإجابة العقلانية على الأسئلة المثارة عبر التاريخ، وحتى عصرنا الراهن بفعل تأثير المرجعيات التاريخية بأنواعها: دينية ، قومية متعصبة ، فلسفية ، وقبلية ...

    وعاجزة عن مواكبة التحولات التي يمرُ بها العالم، مما جعل أمّتنا ودولها العربية على هامش التاريخ.

    لذا فإن مشروع التجديد بهذا المفهوم يصبح ضرورة ملحّة ورسالة حياة لابد من تأديتها بإصرار وحماس ... وفقًا لمبادئ تستوعب هذه التحديات ومنها:

    • أنه مشروع عربي لا يختص بدولة عربية دون أخرى بل ساحته الوطن العربي بأجمعه، ويسعي فى ميثاقه الفكري ومنطلقاته إلي تحقيق المصلحة العربية العليا.
    • سد الفجوة بين صناع الأفكار وصناع القرار فى الوطن العربي، وهي الاشكالية التي كانت وراء فشل معظم المدارس الفكرية عبر التاريخ لتحقيق أهدافها.
    • بناء قدرات الشباب وتطوير التعليم واعتماد التكنولوجية والتحول الرقمي والتمسك بما يفرزه من قيم مادية ومعنوية وأخلاقية وإنسانية وتوظيفها فى تنمية المجتمع العربي.
    • بناء النظام المعرفي الحديث القائم على الحقيقة والتجربة وهو النظام الذي لابد من بنائه فى كل زمان ومكان حسب الظروف ودرجة التقدم والنتاج الفكري والثقافي والعلمي.
    • إحكام سلطة العقل، أي عقلنة الفكر والثقافة, والاستناد إلي العقل فى تفسير وفهم الظواهر الطبيعية والكون والإنسان وفهم العلوم الطبيعية والإنسانية، والتمييز بين ما هو متعال من صنع الإله، وبين ما هو أرضي من نتاج البشر القابل للبحث والنقد والتجديد وهو الأمر الذي يمثل جوهر تقدم الحياة الإنسانية.

    بهذا المعني فإن المعهد يمثل مدرسة فكرية عربية حديثة تعنى بتجديد منظومات الفكر والثقافة والعلوم فى الوطن العربي، وتسعي لبناء مجتمع المعرفة الحديث، وتحقيق مفهوم المواطنة العربية وما يرتبط بها من حقوق وواجبات، وتعني بالتنمية المستدامة بفروعها المختلفة الاقتصادية  والسياسية وغيرها، بغية وضع الأساس لبناء مشروع المستقبل العربي وفق معايير المدنية العالمية الحديثة، مما يستوجب دراسة التيارات والمدارس الفكرية العربية، والتجارب العالمية الناجحة فى مجال التجديد دراسة نقدية علمية منهجية وموضوعية للاستفادة منها فى بناء المشروع.

     

    الدكتور خضير المرشدي

    المشرف العام لمجلة التجديد العربي و

    رئيس المعهد العالمي للتجديد العربي

     

  • Vol. 1 No. 2 (2021)

     

    هل الامة بحاجة لفكر عربي جديد ؟؟؟   د. خضير المرشدي   إبتداءً أود أن أحيّيي الأحرار من مفكري الامة وعلمائها ومثقفيها وشبابها أعضاء المعهد العالمي للتجديد العربي ، ومن خارجه، بمناسبة الذكرى الثانية لتأسيسه ، كما وأحيي وأشكر الاخوات والاخوة الافاضل الذين سيقدمون مداخلات هامة في هذه الحلقة الفكرية بجزئيها الأول والثاني لهذا اليوم ويوم غدٍ الاحد ، كما ويسرني أن أشكر الحضور الكريم والمتميز من اعضاء المعهد وضيوفه .   الاخوات والاخوة … ان هذا المعهد منذ تأسيسه في مثل هذه الايام عام ٢٠١٩، قرر أن يبدأ بداية هادئة رصينة منفتحة دون عقد وقيود ومواقف مسبقة، بعيدة عن الاصطفافات الحزبية والسياسية والحكومية لصالح جهة ما أو ضدّها، يسير بتأنٍ وتدبّرٍ وحكمة، حريصاً على استقلاليته الفكرية والمادية والمعنوية، محافظاً على هدوئه، صبوراً على مايعترض مسيرته من مطبّات وتخرصّات ومعرقلات ومحاولات استهداف وفوضى، قد لايكون السبب في حدوثها شخص لذاته او مجموعة بعينها، إنما هي نتاج تراكم تاريخي واجتماعي ممتد لعقود بل وقرون طويلة، ترسخ عبر الزمن في عقول الكثيرين من أبناء أمتنا حتى اصبح يشكل منظومة نفسية ممنهجة للتخريب وإحباط وإجهاض كل فكرة حرة اصيلة، وكل عمل مبدع خلاّق، لهذا فإن المعهد وفق منهجه ورؤيته الاستراتيجية، ومضامين نظامه الاساسي ومباديء ميثاقه الفكري، وإستناداً لمنظومة قيمه الأخلاقية، وإصرار الثابتين من مؤسسيه، وتكاتف المبدعين من أعضائه، قادرٌ على مواجهتها ومعالجة آثارها في الزمان والمكان، إنطلاقاً من قناعته بمبدأ (( إن الابداع لن يتأتّى إلاّ من عقول نظيفة يملؤها الايمان المتأتي من المعاناة، ونفوس عظيمة ملؤها الثقة والمحبة والمودة والصراحة والاحترام )) .   الحضور الكريم : لايمكن لمشروع التجديد العربي أن يشق طريقه وسط الظلام مالم يفك القيود ويحطّم السلاسل ويتجاوز الخطوط الحمراء الموضوعة ( عبثاً ) عبر الزمن ، ويراجع الثوابت لفرز ما هو سلبي منها، بجرأة وشجاعة، ويناقش حالات القداسة التي أُسقطت على الارض ( قسراً ) وهي ملك للسماء، لتشمل الحجر والشجر والحيوان قبل الانسان ، حتى بات العقل الإنساني محاصراً ومحاطاً بهذه الحلقات المغلقة ، وحائراً بين ماهو حق وما هو باطل، وبين ما يستحق التقديس حقاً وبين ماهو مدنس . ان تعطيل العقل وتكّبيل الفكر هو غاية الظلاميين ودعاة الخطاب الاصولي بكافة انواعه ومصادره، وفي كل حين .   ولطالما ان التجديد العربي مشروع طويل الأمد، ولكونه حاجة إنسانية دائمة ورسالة مستقبلية مستحقة، وضرورة عربية ملحّة، فإنه لم ولن يكون، وينبغي أن لايكون ردة فعل ضد موقف محدد، ولم ولن يكون بديلاً عن تيار او حركة أو حزب أو منافساً لأي منهم، بل اختط لنفسه منهجاً حراً مستقلاً في التفكير والابداع والتمويل دون الإعتماد على دولة او حزب او تيار في مشرق الكرة الارضية ومغربها . إنه المشروع الذي بدأ غنياً بفكرته الأصيلة وبالشخصيات العربية الفكرية الفذة التي انخرطت في صفوفه متبرعة لتمكينه بمالها وجهدها ووقتها، ومتطوعة بفكرها وثقافتها وعلومها وبحوثها ودراساتها، ومعززة لمكانته الاعتبارية بتاريخها الشخصي والمهني المشرّف .   إن فكرة تأسيس المعهد جاءت تلبية لمبررات تاريخية واستحقاقات معاصرة وحاجات مستقبلية، كانت ولازالت تمثل تحديات مهمة تستلزم الاستجابة والشروع بمثل هذه الحركة الفكرية والثقافية لمواجهتها والتصدي لتداعياتها، إنطلاقاً من حقيقة ان تجديد منظومات الفكر وتوحيد الخطاب الثقافي العربي هما الاساس لكل تجديد، ومنطلق لكل تنمية، وقاعدة لكل تقدم وتطور ونهضة . فالمعهد منذ انطلاقته قد وضع المنطلقات النظرية والوسائل العملية ليكون مدرسة فكرية عربية حديثة تشع بنورها على كل ارجاء الوطن العربي الكبير وفق رؤية ستراتيجية لبناء فكر عربي يستلهم قيم الحضارة ويستوعب مشاكل الحاضر ويواكب التطور العالمي في المجالات كافة العلمية منها والتقنية، ويقوم على اركان اقتصاد المعرفة والتحول الرقمي ونظرية المعرفة وسلطة العقل واحكام المنطق في تفسير وتحليل ظواهر الطبيعة والكون والخلق والانسان . مستمداً فكرته الملهمة من إيمانه المطلق بمصلحة الامة العربية العليا وطموحها في بناء مجتمع المعرفة والمواطنة العربية، وفي صنع مستقبل يشكّل الارتقاء الحضاري والمدنية الحديثة ووحدة إرادات فئات الشعب عنوانه الأساسي . وتمثّل العروبة بمفهومها كفكرة جامعة وهوية وثقافة وتاريخاً ورسالة ومرجعية، مصدر منطلقاته وأهدافه. مستنداً لحقيقة إن الايمان بفكرة معينة، والاخلاص لها، والتضحية لأجل تحقيقها، هدفه ليس البحث عن جاه او مكسب او منصب او غنيمة ، إنما هو حالة نضالية فريدة، وموقف وطني وعروبي وإنساني رفيع لم ولن يفهم معناه، ولن يقدّر قيمته، الا الانسان المناضل العفوي البريء بعفويته، المتصالح مع ذاته، المتسامح مع الآخر، المفكر المتجذر بأصالة فكره، والمثقف الصادق الشجاع الناطق بالحق والمدافع عنه كيما ينتصر هذا الحق . لعلّ هذا هو قدر المصلحين والمجددين والمفكرين والانبياء في كل حقب التاريخ وجميع مراحل الزمن .   الأخوات والاخوة الكرام أزماتنا نحن العرب كبيرة ومتعددة ولا نكاد نخرج من احداها الاّ ودخلنا في الثانية، لتلد ثالثة أخرى أكثر مرارة وشؤماً وتعقيداً رغم ذلك، لازلنا نعتقد ان الحل يكمن بإهمال الازمة وكبتها وغض النظر عنها أو بترحيلها لأجل غير مسمى !!! مما يجعلها مزمنة مستعصية على الحل، بخلاف ما تلجأ إليه الامم الحرة التي نجحت وتقدمت حينما تصدّت لمشاكلها وأزماتها بالنقد العلمي الجريء والبحث المنهجي العميق لمنظوماتها الفكرية، وراجعت بعبقرية ملفتة ملفات تاريخها وتراثها أفرزت منه مايفيد عملية تجددّها وتقدمها، وطمرت منه أفكاراً ويقينيّات وثوابت ومباديء واحداث، حينما وجدتها معيقة لتجددّها، معطلة ومشوّشة لعقل شبابها، معاكسة لمنطق حكمائها وخبرائها، مسيئة لحاضرها ومستقبلها، ومانعة لنهضتها وتقدمها. هكذا دخلت عدد من الامم والدول عصر العلم والتقنية والثقافة والفكر، وساهمت في بناء المدنية الحديثة وأصبحت جزءاً منها، دون أن تتنكر للإيجابي من قيمها والمشرق والمشّرف من تراثها، والمميّز من خصوصيتها الوطنية … لقد كسرت هذه الامم أغلال وقيود ، وغادرت منهجيات قديمة من الكبت المعنوي والقمع الفكري والردع الثقافي والتجهيل والإفقار والإفساد المادي والمعنوي والعلمي والمعرفي، هي ذات المنهجيات التي يجري تنفيذها الآن في معظم دولنا العربية وفق مخطط تقوده مرجعيات متخذة من الدين والطائفة والإثنيات العنصرية والاقليات والشعارات السياسية والقوالب الايديولوجية مرتكزاً لها، ومن الدعم الخارجي غطاءً وسنداً لتحقيق اهدافها كي يبقى المجتمع العربي في أجواء ما انتجته القرون الوسطى من التاريخ بكل مايحمل من مآسي وفتن لازالت آثارها وتداعياتها تفعل فعلها حتى اليوم وتمارس على مستوى الافراد والجماعات وادارة الدولة . هذه المرجعيات تعتبر مجرد مناقشة هذه المنهجيات ونقدها او ابداء الرأي فيها يمثل نوعاً من الكفر والالحاد !!! وبهذا فإن من مشاكل الفكر العربي إنه لم يتخلص من تلك الرواسب والشوائب والنزعات والاختراقات التي لازمته وعرضته لعديد من النكسات، حيث طغت الشعارات والخطابات والاصولية والدعوات المتشنجة التي تدعي إمتلاك الحقيقة المطلقة لوحدها، على ماسواها من نتاجات العقل وأحكام المنطق، وفشلت محاولات إصلاح وتجديد عديدة، حتى باتت حالة التردي الفكري والثقافي هي السائدة، وبدلاً من تحقيق الحلم العربي الكبير في بناء الدولة العربية الحرة التقدمية الموحدة، أصبح الفرد العربي يخشى حالة التفكك والتفتت على مستوى الدولة والمجتمع، وما يستتبعها من تخلف وتناحر وصراع وقتال عنيف، حتى صارت المحافظة على وحدتها هي الحلم والهدف والغاية .   وهنا يبرز السؤال الكبير، من المسؤول عن ما وصلت إليه الامة من حالة التردي والتراجع والانحطاط ؟ بجوابي على هذا السؤال لن أتطرق الى دور الاشخاص من حكام ومحكومين وأحزاب وحركات … رغم اهمية كل منهم في رفعة الامة او نكوصها !!!   الإجابة تقتضي طرح سؤالاً آخر ذلك هو : الا ينبغي على المنظومات الفكرية العربية، والخطابات الاصولية ( الماركسية والقومية والدينية والليبرالية والحداثوية ) ان تدفع ثمن هذا التردي وهذه الانتكاسات ؟؟   الا يجب أن تخضع هذه المنظومات، للنقد العلمي الجريء والشجاع، ومساءلتها عن قصورها في حل الازمات الداخلية المتعلقة بتحقيق التنمية، وتعطيلها للعقل العربي وكبته وقمعه، وعجزها عن مواجهة التحديات الخارجية التي اخذت صيغاً متباينة ليس أخطرها الاحتلال بل أهمها مصادرة امكانات الامة المادية والبشرية والمعنوية، ونسف منظومة قيمها الأخلاقية واستبدالها بمنظومة قيم غريبة وهجينة بعيدة عن ظروف نشأتها وكينونتها كأمة ؟؟ الأمر الذي يدعو المفكرين والعلماء والمثقفين لأن يكونوا ( أنبياء ) هذه الامة بحق، ليتآلفوا ويتكاتفوا بإخلاص وتطوّع عن طيب خاطر وبإيمان حقيقي وتجرّدٍ تام لتجديد هذه المنظومات الفكرية المتآكلة والمتناثرة على اكثر من عشرين نظاماً عربياً، يتناولونها بالبحث والدراسة والنقد واستخلاص ماهو مفيد منها في عملية بناء مشروع المستقبل العربي، وطمر المتخلف من افكارها وقوانينها وقيودها وخطاباتها المستلبة للعقل والروح والجسد … أقول هذا، وأنا مؤمن إن العروبة بمفهومها الانساني الشامل، هي من يمنحنا القدرة على القيام بمثل هذا المنجز الحضاري العظيم .   لذا فإن الهدف الذي يسعى المعهد لتحقيقه، هو هدف نبيل وشريف ومجيد إستمد مشروعيته من فكرة العروبة المؤمنة، وخطّ رؤيته الاستراتيجية من حاجة الامة لفكر عربي عصري متجدد مواكب للتطورات الهائلة في العالم، بعدما استهلكتها الشعارات والخطابات الأيديولوجية المتحجرة .   لن أتردد في القول، كأحد أبناء هذه الامة ممن يعتزون بإنتمائهم لعروبتهم الانسانية المؤمنة، أن أمتنا اليوم بحاجة لفكر عربي جديد يحقق التوافق بين الارادات المشتركة لفئات الشعب وإثنياته في الوطن العربي، ويضمن مصالحها ويحدد واجباتها الوطنية، ويتناول القضايا القابلة للتحقيق ومن أهمها وحدة الفكر التي تمثل المدخل الحقيقي والآمن والسليم لتحقيق التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها التي تسبق تحقيق أي نوع من أنواع الوحدة أو آليات تحققها في اطار من التعددية والخصوصية الوطنية، عندما يتوحد الفكر وهذا ليس مستحيلاً، وحينما تزدهر الثقافة ويتكامل نسقها وهذا ليس ضرباً من الخيال ، فإنها ستشكل الفضاء النقي الذي تنشأ فيه الحضارة وتنمو فيه المدنية وتزدهر فيه الحياة ويتحقق فيه التجدد والازدهار .   فالوحدة الفكرية والثقافية العربية لاتعني الغاء الخصوصيات المشروعة والمتجذرة للمجتمع في كل دولة من الدول العربية ، ولا التنكر لتراث تلك الدول وعادات المجتمع وتقاليده ومبادئه وظروف نشأته وحتى طبيعة لهجته العامية التي ترسم ملامح هويته وجذوره . مع التركيز على اهمية التمسك بلغة الثقافة والفكر، اللغة العربية الثرية، التي لاينبغي التنازل عنها لصالح لغات أخرى بل السعي لتحديثها بما يجعلها تستوعب المتغيرات التي افرزتها الثورات الصناعية الرابعة والخامسة وما يليهما من ثورات ……   بعد خراب العراق ولبنان وسوريا وليبيا واليمن وتونس وغيرهم، ومن قبلهما ضياع الاحواز وفلسطين واراضٍ واقاليم اخرى في مشرق الوطن العربي ومغربه ، الا ينبغي علينا ان نبني فكرنا ونبتكر منهجنا ونواكب العالم وننتقل من خطاب الايديولوجيات الى خطاب المعرفة ( الابيستمولوجية )، كي نعيد بنضالنا الفكري والعلمي والثقافي، الحياة لما تبقى من أشلاء جسد العروبة المهشّم، ولنعيد حق ضائع وكرامة مهدورة ؟؟؟ من حيث أن المنظومات الفكرية التي تحدثنا عنها قد شكّلت ولفترة طويلة المحتوى ( المريض والعاجز والمشلول) للقومية العربية، هذه القومية الانسانية التي تستحق ان يكون محتواها ( سليم معافى مبدع وخلاق )، وخطابها الفكري ينبغي ان يتصف : بدرجة عالية من الوعي بموازين القوى العالمية، وإحترام عقل الإنسان في نظرته للكون وقراءة التاريخ والاحداث وتفسير الظواهر وتحليلها.   كما وينبغي على المفكر العربي قبل الانسان البسيط ان يتمسك بواحدة من أهم القضايا التي تتوقف عليها عملية التجديد تلك هي ( كيفية تحرير الروح من الداخل ) التي ينبغي أن تسبق اي نوع آخر من التحرير . وعندما نتحدث عن تحرير الروح من داخلها فإننا لانتحدث عن أمرٍ خيالي، إنما نقصد الفعل الواقعي المبني على التأمل والبحث العلمي المتصف بالحياد والتجرّد من الانتماءات الثانوية والموضوعية وبنبل المقاصد والاستعداد العالي للتضحية، ونبذ ( الأنا ) والتطرف قولاً وفعلاً وسلوكاً .   ختاماً ، إن من أهم أركان عمل هذا المعهد وفقاً لما تم ذكره، هو بناء قدرات الشباب وتهيئة نخبة منهم قادرة على التفكير خارج الاطر المألوفة، وعلى قيادة عملية التجديد لتحقيق وبناء مشروع المستقبل العربي.   سننجح في هذا المشروع طالما إننا صادقين في مسعانا، مخلصين لأمتنا، مضحين من اجل بلوغ اهدافها، عارفين بأنها أمة حيّة لها من الامكانات البشرية والمادية والمعنوية الهائلة، ما يؤهلها لتكون في مقدمة الأمم الحرة والمتقدمة. كل عام وأنتم بخير تحياتي وتقديري
  • Vol. 2 No. 1 (2022)

    افتتاحية هيئة التحرير

     

        تشق مجلة التجديد العربي طريقها بثبات و عزم في سبيل المساهمة في تحقيق الأهداف الطموحة لمعهدنا العالمي للتجديد العربي، و ذلك بمساهمة  المنتسبين إلى هذه المؤسسة الواعدة ممن أسسوا انتماءهم  إليه على مبادئ البذل و التطوع و الطموح نحو تحقيق مشروع لتجديد الفكر العربي بعزم و ثبات .

    و يأتي العدد الثالث ليحقق إضافة رسمت منذ التأسيس بأن تكون مجلة علمية محكمة تنشر الفكر الحر و المتجدد و تذود على قيم البناء الحضاري الخلاقة مؤمنة بمصير عربي واحد في سياق الانفتاح المستمر و الدفاع الدائم على قيم الحرية و التقدم وفق استقراء للواقع و التاريخ العربيين استقراء يعتمد على الاستلهام و القراءة النقدية بأدوات و مناهج جديدة و رؤى حية مواكبة لمسار التطور العالمي في شتى المجالات. لذلك كان العمل حثيثا لدى كل من مروا بهيئة التحرير و لا يزالون من خلال الارتباط الفعال بأنشطة المعهد العالمي للتجديد العربي الذي يؤويها و يصدرها و من خلال توسيع العلاقة مع مواقع إنتاج المعرفة و مراكز البحث و الجامعات العربية و العالمية بغرض بناء علاقات تعاون مثمرة و مجددة لفائدة أبناء الأمة من نخب علمية و ثقافية مع التركيز على النخب الشبابية الذين يحتلون حيزا معتبرا بين منتسبي المعهد و الناشرين على صفحات مجلته التي ما فتأت توليهم مكانة خاصة باعتبارهم جيل القيادة في المستقبل القريب.

    لقد سعت هيئة التحرير منذ أن كان يديرها الأستاذ الدكتور عماد الشيخلي جازاه الله كل خير عما قام به من جهد بمعية الهيئة السابقة إلى اليوم بهدف تطوير آليات عمل المجلة و تحسين مخرجاتها من خلال القيام بعدة خطوات تعزز مكانة  مجلة التجديد و تؤهلها لكي تكون مجلة علمية محكمة , كالحصول على ترقيم دولي  الكتروني و ترقيم دولي ورقي، فضلا عن توسيع مجالات البحوث المقبولة  للنشر و ضبط عملية اختيارها و العمل على إخضاعها لعملية التحكيم الموضوعي  حفاظا على سمعتها العلمية و ضمانا لكسب ثقة طالبي النشر فيها  و مؤسساتهم العلمية و البحثية التي ينتمون إليها .

    لقد ركزنا في هذا العدد على نشر المادة المتعلقة بالعلوم الإنسانية و ما يجاورها باعتبارها المجال الأكثر تداولا الآن، في انتظار أن ننشر في محور خاص بداية من العدد القادم  ما يرد على المجلة من أبحاث و دراسات في مجال العلوم التطبيقية  التي نعتبرها دون أي شك مجالا حيويا و وسيلة أساسية للتنمية و التقدم.  و على كل حال فمجلتنا مازالت ناشئة و تسعى إلى الانتشار و احتلال المكانة اللائقة بها بين المجلات العلمية العربية المحكمة واثقين من أن الفترة القادمة ستكون أفضل و أشمل و أكثر تلبية لمجمل التخصصات العلمية.

    إن طموحنا نحو التجويد و التحسين في أعداد مجلتنا سيبقى قائما دون توقف لأن إرضاء النفس عن النفس غاية لا تدرك بسهولة. فنحن واثقون أن عملنا لن يكون مثاليا ومكتملا بالصيغة التي نرضى و يرضاها لنا من منحونا ثقتهم، فذلك قابل للتطوير طالما توجد بيننا إرادة  صلبة نستمدها من رسالة معهدنا باعتباره مؤسسة بناء و خلية تفكير تهدف إلى الارتقاء بالمعارف و العلوم في فضائنا الحضاري  العربي من خلال رسالة التجديد.

     

                                                  رئيس هيئة التحرير

     الأستاذ الدكتور محمد نجيب بوطالب